كتاب الشفاء والجلاء في الغيبة
للشيخ أبي العبّاس أحمد بن علي الرازي الإيادي
(من أعلام القرن الرابع الهجري)
الشيخ عامر الجابري
تقديم:
يُعَدُّ موضوع الغيبة من أهمّ المواضيع العقائدية التي شغلت بال العلماء في القرنين الرابع والخامس الهجريين وما زالت، وقد كانت نتيجة الجدل المشتعل حول هذا الموضوع هو تلك الثروة الضخمة من الكتب التي أُلِّفت حول الغيبة في تلك الفترة، والتي ضاع الكثير منها بسبب الأيادي الجائرة والعابثة.
ولا يخفى ما للبويهيين - الذين سيطروا على مقاليد الحكم في إيران والعراق من عام (٣٣٤هـ) إلى (٤٤٧هـ) - من دور كبير في إنعاش وازدهار حركة التصنيف والتأليف حول المذهب الشيعي وفي مختلف الحقول من: حديث وفقه وكلام وتاريخ و...؛ وذلك بفضل الحرّية التي نالها الشيعة في عصرهم، وما قدَّموه من دعم وتسهيل وتشجيع لأهل العلم والمعرفة كافَّة، وما بذلوه من دعم خاصٍّ في سبيل تقوية المذهب الشيعي وتطوير مؤسَّساته العلمية والثقافية.
ومن بين العلماء الذين عاصروا تلك الفترة الزمنية هو الشيخ أبو العبّاس أحمد بن علي الرازي الإيادي، وهو من أهل الري على ما يظهر من لقبه ومن بعض المؤشِّرات، وقد كانت الري في ذلك الزمان من أعظم مدن الإسلام، وقد اتِّخذها ركن الدولة البويهي عاصمة للإقليم الذي كان يقع تحت سيطرته.
وكان هذا الشيخ من أوائل المبادرين للتصنيف حول الغيبة، حيث كتب لنا كتاب (الشفاء والجلاء في الغيبة)، وهذا الكتاب وإن فُقِدَ فيما بعد إلَّا أنَّ الشيخ الطوسي قد حفظ لنا الكثير من رواياته في غيبته.
وقد فكَّرت بأن أقوم باستخراج تلك الروايات واستلالها من كتاب الغيبة للشيخ الطوسي في محاولة لإحياء ما تبقّى من الكتاب، ونفخ الروح فيه من جديد.
وكان لا بدَّ لي قبل ذلك من القيام بترجمة وافية للمصنِّف، وهو ما واجهتني فيه مشكلة بحثية حقيقية، فإنَّ المصنِّف قد أُلصقت به تهمة الغلوّ والارتفاع من قِبَل بعض الرجاليين، وهو ممَّا قد يُقلِّل من قيمة الكتاب العلمية، وممَّا زاد في تعقيد المشكلة هو أنَّ المادَّة التاريخية المرتبطة بترجمة المصنِّف وسيرته لا تتجاوز بضعة أسطر في فهرستي الشيخ الطوسي والنجاشي.
ومن هنا فقد اضطررت إلى التوجّه إلى ما وصلَنا من روايات كتاب الشفاء والجلاء المودعة في غيبة الطوسي، ومحاولة الإستفادة منها قدر الإمكان لتذليل هذه المشكلة، فهذه الروايات هي النافذة الوحيدة التي نستطيع أن نطل من خلالها على جوانب من حياة المصنِّف، كمعرفة عصـره، وشيوخه، وتلامذته، وعقيدته، وفكره، وهو ما فتح لنا الطريق بعد ذلك إلى محاولة ردّ تهمة الغلوّ والارتفاع التي أُلصقت به ونفيها عنه، بل هو ما يسَّـر لنا بعد ذلك محاولة جمع القرائن والشواهد المورثة للإطمئنان بوثاقته أو حسنه على الأقلّ.
وعلى هذا الأساس انقسم بحثنا إلى قسمين:
القسم الأوَّل: ترجمة أحمد بن علي الرازي الإيادي.
القسم الثاني: متن كتاب الشفاء والجلاء المستخرج من غيبة الطوسي.
القسم الأوّل
ترجمة أحمد بن علي الرازي الإيادي
١ - اسمه وكنيته ونسبه ولقبه وسكناه:
قال الشيخ الطوسي في الفهرست: (أحمد بن علي الخضيب الإيادي، يُكنّى أبا العبّاس، وقيل: أبا علي الرازي...)(١).
وقال في الرجال: (أحمد بن علي أبو العبّاس الرازي الخضيب الإيادي...)(٢).
وقال النجاشي: (أحمد بن علي أبو العبّاس الرازي الخضيب الإيادي...)(٣).
تتَّفق النصوص السابقة على اسمه واسم أبيه، كما أنَّ المشهور أنَّ كنيته (أبو العبّاس)؛ ولذا قال الطوسي: (وقيل: أبا علي)، ممَّا يدلُّ على ضعف هذا الرأي.
ولم ينصّ علماء الرجال على اسم جدِّه، كما أنَّنا لا نعرف شيئاً عن أُسرته وأولاده.
(الإيادي): أمَّا الإيادي بكسر الهمزة فهذه النسبة ربَّما تكون:
ألف - إلى إياد بن نزار بن معد بن عدنان(٤)، فهم من العدنانية، وقد هاجرتْ هذه القبيلة إلى العراق في القرن الثالث الهجري ونزلوا سنداد بناحية سواد الكوفة فأقاموا بها دهراً، ثمّ انتشـروا فيما بين سنداد وكاظمة وإلى بارق والخورنق وما يليها، واستطالوا على الفرات حتَّى خالطوا أرض الجزيرة(٥).
باء - وقد تكون هذه النسبة إلى إياد بن سود بن الحجر بن عمران بن مزيقيا، بطن من الأزد من القحطانية(٦).
وقد وُصِفَ صاحب الترجمة بـ (الإيادي) في فهرست الطوسي ورجاله ورجال النجاشي كما مرَّ في النصوص السابقة، ولكنَّنا لا نعلم إلى أيِّ القبيلتين المشار إليهما ينتسب.
و(الخضيب): صيغة مبالغة من الخضاب، ومعنى الخضاب تغيير اللون بالحناء، وإذا كان بغير الحناء قيل: صبغ شعره، ولا يقال: خضبه(٧)، وعلى هذا الأساس يكون قول أمير المؤمنين عليه السلام: (إنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد إليَّ أن لا أموت حتَّى تخضب هذه من هذه)(٨) مشيراً إلى لحيته وهامته - من التعابير المجازية -، وكذلك ما ورد في زيارة الإمام الحسين عليه السلام: (السلام على الشيب الخضيب)(٩).
ويدَّعي السمعاني أنَّ (الخضيب) لقب لمن يخضب لحيته بالحمرة على وجه السُّنَّة، ثمّ ذكر عدداً من رجال العامَّة ممَّن اشتهروا بهذا اللقب كأبي الحسن محمّد بن أبي سليمان الزجّاج الخضيب، ومحمّد بن شاذان بن درست الخضيب، ومحمّد بن عبد الله بن سفيان الخضيب، وغيرهم(١٠).
وعلى أيِّ حالٍ، فنحن لا نعلم إن كان (الخضيب) لقباً للمترجَم له أو لأبيه أو لأحد أجداده.
و(الرازي): ... هذه النسبة إلى الري... وألحقوا الزاي في النسبة تخفيفاً، لأنَّ النسبة على الياء ممَّا يشكل ويثقل على اللسان، والألف لفتحة الراء(١١).
والري مدينة تاريخية قديمة تعود بجذورها إلى ما قبل الإسلام، وقد أصبحت في العهد الإسلامي من أعظم المدن، فقد جاء في وصفها (والرَّي مدينة ليس بعد بغداد في المشـرق أعمر منها وإن كانت نيسابور أكبر عرصة منها، وأمَّا اشتباك البناءِ واليسار والخصب والعمارة فهي أعمر...)(١٢).
وكانت في العصر البويهي - وهو العصـر الذي عاش فيه المترجَم له - عاصمة للجزء الذي كان يحكمه ركن الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه، وسيأتي - بعد سطور - حديث عن الحياة العلمية في هذه المدينة في عصر المترجَم له.
وممَّا ينبغي أن يُشار إليه: هو أنَّ الري في الوقت الحاضر اسم لمنطقة صغيرة تقع جنوب طهران، وهي تحتضن قبر السيِّد عبد العظيم الحسني الذي يُعَدُّ من أبرز معالمها في الوقت الحاضر.
٢ - عصره:
المعطيات المتوفّرة لدينا لا تساعدنا على تحديد دقيق لتاريخ ولادة أو وفاة المترجَم له، ولكنَّنا نستطيع تحديد عصره بكلِّ يسر من خلال بعض المعطيات.
فقد روى المترجَم له عن أبي علي أحمد بن إدريس الأشعري القمّي المتوفّى سنة (٣٠٦هـ)(١٣)، وروى أيضاً عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي الكوفي وكيل الناحية المقدَّسة المتوفّى سنة (٣١٢هـ)(١٤).
فإذا ضممنا إلى ذلك: رواية هارون بن موسى التلعكبري عنه وإدراكه له، وقد توفّي التلعكبري سنة (٣٨٥هـ) كما نصَّ الطوسي على ذلك(١٥)، نستطيع أن نقول: إنَّ ولادة المترجَم له ربَّما كانت في نهايات القرن الثالث الهجري، وأنَّه قد بدأ نشاطه العلمي مع بدايات القرن الرابع الهجري، وقد عاصر نهايات الغيبة الصغرى وبدايات الغيبة الكبرى، وعاش في هذه الفترة الانتقالية الحرجة من تاريخ التشيّع.
والمترجَم له من سكنة الري كما أشرنا، و(في هذه الفترة انتقلت حركة التدريس والكتابة والبحث إلى مدينتي (قم والري)، وظهر في هذه الفترة شيوخ كبار من أساتذة فقه أهل البيت في هاتين المدينتين، كان لهم أكبر الأثر في تطوير الفقه الإمامي، فقد كانت قم منذ أيّام الأئمَّة عليهم السلام مدينة معروفة بولائها وانتمائها لأهل البيت ومن أُمَّهات المدن الشيعية، وكانت حصناً من حصون الشيعة، وعشّاً لآل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، وموضع عناية خاصَّة من أهل البيت عليهم السلام...، وكانت الري في هذا التاريخ بلدة عامرة بالمدارس والمكاتب، وحافلة بالعلماء والفقهاء والمحدِّثين...، فقد حفلت قم والري في هذه الفترة - القرن الرابع الهجري - بشيوخ كبار في الفقه والحديث أمثال: الشيخ الكليني المتوفّى سنة (٣٢٩هـ)، وابن بابويه والد الصدوق المتوفّى سنة (٣٢٩هـ)، وابن قولويه أُستاذ الشيخ المفيد المتوفّى سنة (٣٦٩ هجرية)، وابن الجنيد المتوفّى سنة (٣٨١ هجرية) بالري، والشيخ الصدوق المتوفّى سنة (٣٨١هـ) والمدفون بالري، وغيرهم من كبار مشايخ الشيعة في الفقه والحديث. ونشطت في هذه الفترة حركة التأليف والبحث الفقهي وتدوين المجاميع الحديثية الموسَّعة كالكافي ومن لا يحضره الفقيه، وغيرهما من المجاميع الحديثية والكتب الفقهية)(١٦).
وقد كان للبويهيين أكبر الأثر في تطوير الحياة العلمية والثقافية في قم والري، فالمعروف تاريخياً أنَّهم قد بدؤوا سنة (٣٢٢هـ) في شيراز قلب بلاد فارس نواة دولتهم(١٧)، والتي بدأت تتَّسع يوماً بعد يوم حتَّى شملت أراضي شاسعة من إيران والعراق، والتي وصفها ابن خلدون بقوله: (وكانت لهم الدولة العظيمة التي باهى الإسلام بها سائر الأُمم)(١٨).
وفي سنة (٣٣٤هـ) سيطر البويهيون على مقاليد الحكم في إيران والعراق، وأصبحوا هم الحكّام الحقيقيين في هذين البلدين، وقد جرَّدوا الخليفة العبّاسي المستكفي بالله من أغلب سلطاته الدينية والدنيوية، ولُقِّب علي بن بويه بعماد الدولة، والحسن بن بويه بركن الدولة، وأحمد بن بويه بمعزِّ الدولة(١٩).
وقد كان ركن الدولة البويهي (٢٨٤ - ٣٦٦هـ) حاكماً على الري وأصفهان وهمدان، وكان على صلة طيِّبة مع الشيخ الصدوق، فلمَّا نزل الشيخ الصدوق الري أكرمه ركن الدولة وأدناه، وقد كان يعقد المناظرات المذهبية والدينية في دار إمارته وبمحضره ومشاركته(٢٠).
وممَّا يشير إلى المكانة العلمية لقم والري في تلك الحقبة وعلاقة الدولة البويهية في تطوير الحياة العلمية في تلك الفترة ما ذكره الحسن بن محمّد بن الحسن القمّي في كتابه (تاريخ قم) الذي ألَّفه سنة (٣٧٨هـ) للصاحب بن عباد وزير البويهيّين، فقد خصَّص الباب السادس عشـر لذكر علماء قم وذكر شيء من تراجمهم، وعدد الشيعة منهم (٢٦٦) شخصاً، وعدد العامَّة (١٤) شخصاً، وهذا الكتاب وإن كان مفقوداً في عصـرنا، ولكن لحسن الحظِّ أنَّ الأيّام قد حفظت لنا بعض أبوابه وفصوله ممَّا يلقي بعض الضوء على تاريخ قم والري في تلك الفترة(٢١).
هذا هو العصـر الذي كان يعيش فيه أحمد بن علي الرازي، والذي كان له أكبر الأثر في بناء شخصيته العلمية، فقد عُرفت مدرسة قم والري في تلك الفترة باهتمامها البالغ بشأن الحديث كما أشرنا، وهذا ما انعكس بشكل واضح على توجّهات الرازي وميوله العلمية، فقد شجَّعته الأجواء العلمية التي كانت سائدة آنذاك، ووفرة المحدِّثين في قم والري على اقتفاء أثر حملة حديث أهل البيت عليهم السلام والانتهال من مناهلهم العذبة، وقد أثمرت جهوده في آخر المطاف وتمخَّضت عن ثلاثة مصنَّفات سنشير إليها لاحقاً إن شاء الله.
٣ - من أهمّ مشايخه:
ألف - أبو الحسين محمّد بن علي بن الفضل بن تمام الدهقان الكوفي، من وجوه الطائفة وأجلَّائها.
قال الطوسي بعد أن عنونه في الفهرست: (... كثير الرواية، له كتب، منها: كتاب الفرج في الغيبة كبير حسن...)(٢٢).
وقال عنه النجاشي بعد أن ذكر نسبه: (وكان لُقِّب بسكين بسبب إعظامهم له. وكان ثقةً، عيناً، صحيح الاعتقاد، جيِّد التصنيف)، ثمّ عدَّ كتبه وعدَّ منها (كتاب الفرج)(٢٣)، يعني (كتاب الفرج في الغيبة) الذي ذكره الطوسي.
واعتماد الرازي على هذا الشيخ الجليل في تصنيف (كتاب الشفاء والجلاء) - كما سيأتي - إن دلَّ على شيء فإنَّما يدلُّ على دقَّة الرازي وتحرّيه عن الرجال الثقاة الأثبات المختصّين والمهتمّين بقضيَّة الإمام المهدي عليه السلام.
باء - أبو الحسين محمّد بن جعفر بن الأسدي (ت ٣١٢هـ) وكيل الناحية المقدَّسة في الري، (كان ثقةً، صحيح الحديث) بحسب تعبير النجاشي(٢٤).
وقد عدَّه الطوسي في غيبته من الوكلاء الثقاة الذين ترد عليهم التوقيعات من قِبَل المنصوبين للسفارة، ثمّ قال - بعد أن أورد عدَّة روايات -: (ومات الأسدي على ظاهر العدالة لم يتغيَّر ولم يُطعَن عليه في شهر ربيع الآخر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة)(٢٥).
وقد ذكره الشيخ الصدوق في (من لا يحضـره الفقيه) بما يُؤكِّد وثاقته وجلالته، إذ قال: (وأمَّا الخبر الذي روي فيمن أفطر يوماً من شهر رمضان متعمِّداً أنَّ عليه ثلاث كفارات، فإنّي أُفتي به فيمن أفطر بجماع محرَّم عليه أو بطعام محرَّم عليه، لوجود ذلك في روايات أبي الحسين الأسدي (رضي الله عنه)، فيما ورد عليه من الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري قدَّس الله روحه)(٢٦).
ولا ريب أنَّ وكيل الناحية يكون من أشدّ المهتمّين بقضيَّة الإمام المهدي عليه السلام، وممَّن يتحرّون الدقَّة في نقل أحواله وأخباره عليه السلام، ومن هنا نجد الرازي قد جعل هذا الشيخ الموثوق مصدراً من مصادره في تصنيفه لكتاب (الشفاء والجلاء)، فكان يروي عنه أحياناً بالواسطة وأحياناً بدونها كما سيأتي.
جيم - أبو عبد الله الحسين بن علي بن سفيان بن خالد بن سفيان البزوفري، من أجلَّاء الإماميَّة، كان حيّاً سنة (٣٥٢هـ) على ما يظهر من بعض النقول(٢٧).
و(البَزَوْفَري) بفتح الباء والزاي وسكون الواو وفتح الفاء نسبة إلى قرية كبيرة من أعمال قوسان قرب واسط وبغداد على النهر الموفّقي في غربيِّ دجلة(٢٨).
قال عنه النجاشي بعد أن عنونه: (شيخ، ثقة، جليل من أصحابنا. له كتب، منها: كتاب الحجِّ، وكتاب ثواب الأعمال، وكتاب أحكام العبيد، قرأت هذا الكتاب على شيخنا أبي عبد الله رحمه اله، كتاب الردِّ على الواقفة، كتاب سيرة النبيِّ والأئمَّة عليهم السلام في المشركين)(٢٩).
وذكره الشيخ في الرجال بقوله: (الحسين بن علي بن سفيان البزوفري خاصّي، يُكنّى أبا عبد الله، له كتب ذكرناها في الفهرست، روى عنه التلعكبري، وأخبرنا عنه جماعة منهم: محمّد بن محمّد بن النعمان، والحسين بن عبيد الله، وأحمد بن عبدون)(٣٠).
ولكن ممَّا يُؤسَف له أنَّ ترجمة الرجل قد سقطت من كتاب الفهرست كما يظهر من خلال التتبّع.
وعلى أيِّ حالٍ، فهذا الشيخ الفاضل هو أحد المصادر والمنابع المهمَّة التي اعتمدها الرازي في كتابه (الشفاء والجلاء) كما سيأتي.
دال - أبو علي أحمد بن إدريس الأشعري القمّي (ت ٣٠٦هـ)، من فقهاء الإماميَّة ووجوهها.
قال الطوسي في الفهرست: (كان ثقةً في أصحابنا فقيهاً، كثير الحديث صحيحه، وله كتاب النوادر كتاب كبير كثير الفائدة، أخبرنا بسائر رواياته الحسين بن عبيد الله عن أحمد بن جعفر بن سفيان البزوفري عن أحمد بن إدريس، ومات أحمد بن إدريس بالقرعاء في طريق مكّة سنة ستّ وثلاثمائة)(٣١).
وذكره في الرجال قائلاً: (أحمد بن إدريس القمّي الأشعري، يُكنّى أبا علي، وكان من القوّاد، روى عنه التلعكبري، قال: سمعت منه أحاديث يسيرة في دار ابن همّام، وليس لي منه إجازة)(٣٢).
وذكره النجاشي بما يوافق قول الطوسي في الفهرست(٣٣).
ويظهر من بعض الروايات - كما سيأتي في القسم الثاني من البحث - أنَّ صاحب الشفاء والجلاء قد أدرك أحمد بن إدريس وروى عنه، وهذا ليس بمستبعد، فقد أدرك محمّد بن جعفر الأسدي وكيل الناحية المقدَّسة، وقد توفّي الأسدي سنة (٣١٢هـ) كما مرَّ، وقد قرأنا في نصِّ الطوسي السابق أنَّ التلعكبري - وهو تلميذ المترجَم له - قد روى عنه، وقال: (سمعت منه أحاديث يسيرة في دار ابن همّام، وليس لي منه إجازة)، والتلعكبري هو هارون بن موسى التلعكبري من تلاميذ المترجَم له كما سيأتي.
٤ - مصنَّفاته:
لأحمد بن علي الرازي ثلاثة كتب نصَّ عليها أصحاب الفهارس(٣٤)، هي:
١ - كتاب (الفرائض): والمقصود بالفرائض عند القدماء (المواريث)، ففي الحديث النبوي الشـريف: (تعلَّموا الفرائض وعلِّموها الناس، فإنّي امرؤ مقبوض، وإنَّ العلم سيُقبَض، وتظهر الفتن حتَّى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدان من يفصل بينهما)(٣٥)، وأيضاً: (تعلَّموا الفرائض وعلِّموها الناس، فإنَّها نصف العلم، وهو يُنسى، وهو أوَّل شيء يُنتَزع من أُمَّتي)(٣٦).
وعن أبي عبد الله عليه السلام: (لا يستقيم الناس على الفرائض والطلاق إلَّا بالسيف)(٣٧).
وقد اهتمَّ المحدِّثون والفقهاء اهتماماً بالغاً بهذا الحقل من حقول الفقه، وألَّفت العديد من الكتب الحديثية والفقهية المستقلَّة في هذا المضمار، والتي حملت عنوان (الفرائض).
ومن خلال تتبّع كتب الفهارس، يظهر لنا أنَّ الابتداء بالتصنيف تحت هذا العنوان قد بدأ منذ عصـر الأئمَّة عليهم السلام، كرفاعة بن موسى الأسدي النخّاس من أصحاب الصادق والكاظم عليهما السلام الذي كان له كتاب مبوَّب في الفرائض كما ذكر النجاشي(٣٨)، وصفوان بن يحيى (ت ٢١٠هـ) من أصحاب الكاظم والرضا والجواد عليهم السلام الذي عُدَّ من كتبه (كتاب الفرائض)(٣٩)، وغيرهما من أصحاب الأئمَّة عليهم السلام.
٢ - كتاب (الآداب): والآداب مصطلح فقهي يشير إلى ما يشمل مستحبّات ومكروهات العمل، فآداب المائدة تشمل مستحبّات المائدة ومكروهاتها، وآداب السفر تشمل مستحبّات السفر ومكروهاته، وآداب القضاء تشمل مستحبّات القضاء ومكروهاته، وهكذا...، قال المحقِّق الحلّي في كتاب القضاء: (النظر الثاني: في الآداب، وهي قسمان: مستحبَّة ومكروهة)(٤٠)، فجعل الآداب عنواناً شاملاً للمكروهات أيضاً، وهو لا يخلو من مسامحة؛ لأنَّ الأدب في الحقيقة هو اجتناب المكروه.
٣ - الشفاء والجلاء في الغيبة: وهو موضوع بحثنا.
وممَّا يُؤسَف له أنَّ هذه الكتب مفقودة في عصـرنا، ولم تحفظ لنا الأيّام منها سوى ما نقله الطوسي في غيبته عن كتاب الشفاء والجلاء كما سيأتي.
ولعلَّ هذه الكتب قد أُتلفت فيما أُتلف من التراث الشيعي في الحملة السلجوقية التي أتلفت جزءاً كبيراً من هذا التراث، وهو ما أكَّدنا عليه مراراً في كتابنا (أُصول المقتل الحسيني)(٤١).
والسبب في هذا التأكيد أنَّنا من خلال التتبّع والتأمّل في الفهرست ورجال النجاشي نجد أنَّ أكثر الأُصول التالفة كانت موجودة في وقت تأليف هذين الكتابين ثمّ اختفت بعد ذلك، ومن المعلوم أنَّ أوَّل وأهمّ حادثة وقعت بعد ذلك هي الحملة السلجوقية، وهو ما يُؤكِّد مسؤولية هذه الحملة عن ضياع هذا التراث.
أمَّا عن حجم ما تسبَّبت به هذه الحملة من تدمير متعمِّد للتراث الشيعي، فيُحدِّثنا الحموي عن ذلك بقوله - وهو يتحدَّث عن محلَّة بين السورين -: (اسم لمحلَّة كبيرة كانت بكرخ بغداد، وكانت من أحسن محالّها وأعمرها، وبها كانت خزانة الكتب التي وقفها الوزير أبو نصـر سابور بن أردشير وزير بهاء الدولة بن عضد الدولة، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كانت كلّها بخطوط الأئمَّة المعتبرة وأُصولهم المحرَّرة، واحترقت فيما أُحرق من محالِّ الكرخ عند ورود طغرل بك أوَّل ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة ٤٤٧هـ)(٤٢).
بل إنَّ الفتنة قد توسَّعت بعد ذلك، ففي عام (٤٤٩هـ) - على ما ذكر ابن الجوزي - دخلوا إلى دار شيخ الطائفة الطوسي، وأحرقوا كتبه وكرسيه الذي كان يجلس عليه للتدريس(٤٣).
٥ - معتقده ووثاقته:
كان أحمد بن علي الرازي إماميّاً اثني عشـرياً، وهذه حقيقة واضحة لا تحتاج إلى جهد في إثباتها، ويكفي أن نذكر هنا تصنيفه لكتاب (الشفاء والجلاء) الذي تدور أحاديثه حول غيبة الإمام الثاني عشـر عليه السلام.
كما يُمكننا أن نلمس هذه الحقيقة بوضوح من خلال التأمّل في مضامين ما بقي من روايات هذا الكتاب في غيبة الشيخ الطوسي، فإنَّ هذه الروايات قد تضمَّنت ما يُؤكِّد إماميَّته، بل اثني عشـريته بشكل قاطع لا لبس فيه.
وإنَّما نحن بحاجة إلى أن نبذل جهداً من أجل إثبات وثاقته أو تحسينه أو رفع التهمة عنه كحدٍّ أدنى ، وذلك لكونه من المتَّهمين بالغلوِّ، على الرغم من أنَّ الطوسي قد استحسن كتابه (الشفاء والجلاء) واعتمده في غيبته.
فنحن إذن أمام معركة رجالية شرسة لا بدَّ لنا من خوضها، وستكون لنا محاولتان في هذا المجال:
أ - محاولة رفع تهمة الغلوِّ عنه.
ب - محاولة توثيقه أو تحسينه كحدٍّ أدنى.
أ - محاولة رفع تهمة الغلوِّ عنه:
قال فيه الطوسي: (لم يكن بذلك الثقة في الحديث، ومتَّهم بالغلوِّ)(٤٤).
وقال النجاشي: (قال أصحابنا: لم يكن بذاك، وقيل: فيه غلوّ وترفّع)(٤٥).
وبناءً على كون فهرست الطوسي أسبق من رجال النجاشي من حيث زمن التأليف، فيمكن القول أنَّ النجاشي قد اقتبس هذا الرأي من الطوسي، بل يمكن القول: أنَّ هذا الرأي في الأصل هو رأي الحسين بن عبيد الله الغضائري، فقد قال أحمد بن الحسين الغضائري بشأن المترجَم له: (حدَّثني أبي أنَّه كان في مذهبه ارتفاع، وحديثه يُعرَف تارةً ويُنكَر أُخرى)(٤٦).
فالحسين بن عبيد الله الغضائري هو أوَّل من صـرَّح بنسبة الارتفاع في المذهب إلى المترجَم له، وهو تعبير آخر عن الغلوِّ في الأئمَّة عليهم السلام، فقد جاء في نهاية الدراية: (وفي مذهبه ارتفاع، ومرتفع القول، وكان من الطيّارة، يريدون بذلك كلّه التجاوز بالأئمَّة عليهم السلام إلى ما لا يسوغ)(٤٧).
والغضائري هو أُستاذ الطوسي والنجاشي في الرجال، وأغلب الظنّ أنَّهما قد نقلا هذه التهمة عنه، فكونهما مجرَّد ناقلين واضح في نصّيهما: (متَّهم بالغلو)، (قال أصحابنا)، (وقيل: فيه).
قال السيِّد الجلالي: (لا ريب أنَّ ابن الغضائري - وهو زميل النجاشي والشيخ الطوسي - هو مثلهما في عدم المعاصرة لأكثر الرواة الذين ذكروهم في كتبهم، وإنَّما اعتمدوا في ما ذكروه من أحوالهم على ما أخذوه من المشهور بين علماء الرجال عند الطائفة، وأقربهم إليهم أبوه الحسين الغضائري الذي اشتهر بالمعرفة بالرجال)(٤٨).
وممَّا يُهوِّن الخطب ويفتح لنا طريقاً باتِّجاه نفي هذه التهمة ونزعها عن المترجَم له، هو أنَّ تضعيفات وطعون الغضائري والمتشدِّدين من القمّيين غير معتبرة عند كثير من المحقِّقين في الرجال؛ لأنَّهم لا يستندون في ذلك إلى الشهادة والحسّ، بل يعتمدون على النظر في محتويات الروايات، فإذا وجدوا ما ينطبق عليه مفهوم الغلوِّ أو الارتفاع من وجهة نظرهم الخاصَّة نسبوا الراوي إلى الغلوِّ أو الارتفاع، بل نسبوه إلى الكذب؛ لأنَّهم سيتَّهمونه بوضع تلك الروايات، وما ذلك إلَّا لاشتمالها على بعض المفاهيم التي لا تنسجم مع فهمهم الخاصّ لمقام الإمامة.
قال العلَّامة المجلسـي: (ولكن أفرط بعض المتكلِّمين والمحدِّثين في الغلوِّ لقصورهم عن معرفة الأئمَّة عليهم السلام، وعجزهم عن إدراك غرائب أحوالهم وعجائب شؤونهم، فقدحوا في كثير من الرواة الثقاة لنقلهم بعض غرائب المعجزات، حتَّى قال بعضهم: من الغلوِّ نفي السهو عنهم، أو القول بأنَّهم يعلمون ما كان وما يكون)(٤٩).
وللوحيد البهبهاني كلام مهمٌّ في المقام حيث يقول: (اعلم أنَّ الظاهر أنَّ كثيراً من القدماء سيّما القميّين منهم (والغضائري منهم) كانوا يعتقدون للأئمَّة عليهم السلام منزلة خاصَّة من الرفعة والجلالة ومرتبة معيَّنة من العصمة والكمال بحسب اجتهادهم ورأيهم، وما كانوا يُجوِّزون التعدّي عنها، وكانوا يَعدّون التعدّي ارتفاعاً وغلوّاً حسب معتقدهم، حتَّى أنَّهم جعلوا مثل نفي السهو عنهم غلوّاً، بل ربَّما جعلوا مطلق التفويض إليهم أو التفويض الذي اختُلِفَ فيه كما سنذكر، أو المبالغة في معجزاتهم ونقل العجائب من خوارق العادات عنهم، أو الإغراق في شأنهم وإجلالهم وتنزيههم عن كثير من النقائص، وإظهار كثير قدرة لهم وذكر علمهم بمكنونات السماء والأرض، ارتفاعاً أو مورثاً للتهمة به، سيّما بجهة أنَّ الغلاة كانوا مختفين في الشيعة مخلوطين بهم مدلسين. (وبالجملة) الظاهر أنَّ القدماء كانوا مختلفين في المسائل الأُصولية أيضاً، فربَّما كان شيء عند بعضهم فاسداً أو كفراً غلوّاً أو تفويضاً أو جبراً أو تشبيهاً أو غير ذلك، وكان عند آخر ممَّا يجب اعتقاده أو لا هذا ولا ذاك، وربَّما كان منشأ جرحهم بالأُمور المذكورة وجدان الرواية الظاهرة فيها منهم كما أشرنا آنفاً وادَّعاه أرباب المذاهب كونه منهم أو روايتهم عنه، وربَّما كان المنشأ روايتهم المناكير عنه، إلى غير ذلك، فعلى هذا ربَّما يحصل التأمّل في جرحهم بأمثال الأُمور المذكورة).
إلى أن قال: (ثمّ اعلم أنَّه - يعني أحمد بن محمّد بن عيسى - والغضائري ربَّما ينسبان الراوي إلى الكذب ووضع الحديث أيضاً بعد ما نسباه إلى الغلوِّ، وكأنَّه لروايته ما يدلُّ عليه، ولا يخفى ما فيه، وربَّما كان غيرهما أيضاً كذلك، فتأمَّل)(٥٠).
ويقول الشيخ جعفر السبحاني: (وعلى ذلك، فليس من البعيد أنَّ الغضائري ونظراءه الذين ينسبون كثيراً من الرواة إلى الضعف والجعل، كانوا يعتقدون في حقِّ النبيِّ والأئمَّة عليهم السلام عقيدة أُولئك المشايخ، فإذا وجدوا أنَّ الرواية لا توافق معتقدهم اتَّهموه بالكذب ووضع الحديث. والآفة كلُّ الآفة هو أن يكون ملاك تصحيح الرواية عقيدة الشخص وسليقته الخاصَّة، فإنَّ ذلك يوجب طرح كثير من الروايات الصحيحة، واتِّهام كثير من المشايخ. والظاهر أنَّ الغضائري كان له مذاق خاصّ في تصحيح الروايات وتوثيق الرواة، فقد جعل اتقان الروايات في المضمون، حسب مذاقه، دليلاً على وثاقة الراوي، ولأجل ذلك صحَّح روايات عدَّة من القمّيين، ممَّن ضعَّفهم غيره، لأجل أنَّه رأى كتبهم وأحاديثهم صحيحة. كما أنَّه جعل ضعف الرواية في المضمون، ومخالفته مع معتقده في ما يرجع إلى الأئمَّة، دليلاً على ضعف الرواية، وكون الراوي جاعلاً للحديث)(٥١).
وممَّا يدلُّ على كون الغضائري قد استند في طعنه على النظر والاجتهاد دون الحسِّ والشهادة، قوله: (وحديثه يُعرَف تارةً ويُنكَر أُخرى)، يعني يُؤخَذ به تارةً ويُرَدُّ أُخرى كما ذكر علماء الدراية(٥٢)، فهذا يدلُّ على أنَّ الغضائري قد استند في حكمه على ما تضمَّنته أحاديث المترجَم له من مفاهيم تُعَدُّ منكرة في نظره الخاصّ، وهذه مسألة ذوقية نسبية غير خاضعة لضابطة متَّفق عليها بين أعلام الطائفة، فما كان في نظر الغضائري غلوّ وارتفاع قد لا يكون كذلك في نظر غيره، ولذا نجد الطوسي يستحسن كتاب (الشفاء والجلاء) وينقل عنه رغم تهمة الغلوّ التي أُلصقت بمصنِّفه؛ لأنَّه لم يجد فيه ما يتعارض مع ذوقه الخاصّ في فهم العقيدة الاثني عشرية.
وبهذا نخلص إلى عدم ثبوت تهمة الغلوّ والارتفاع بحقِّ المترجَم له، وأنَّها ربَّما كانت نتيجة للجدل الفكري الذي كان محتدماً في ذلك العصر حول فهم مقامات الإمامة.
ب - محاولة توثيقه أو تحسينه كحدٍّ أدنى:
بقي علينا أن نستأنف رحلة البحث من جديد، ونتلمس ما يمكننا من خلاله إثبات وثاقة الرازي أو حسنه على أقلّ تقدير؛ فإنَّ مجرَّد ردِّ التهمة ونفيها عن الراوي لا ينفع إلَّا على القول بأصالة العدالة لكلِّ إمامي لم يثبت فسقه، وهو ما يظهر من العلَّامة الحلّي في ترجمة (أحمد بن إسماعيل بن سمكة)(٥٣)، أمَّا من يعتبر وثاقة الراوي أو حسنه في حجّية خبره، فلا بدَّ له من مباشرة البحث بشأن كلّ راوٍ لم يثبت بحقِّه تضعيف ولا توثيق.
وليس أمامنا سوى إعادة النظر في وثاقة المترجَم له من خلال منهج جمع القرائن والشواهد المفيدة للإطمئنان، وهو أحد الطرق المتَّبعة في تحصيل وثاقة الراوي.
قال الشيخ جعفر السبحاني: (إنَّ سعي المستنبط على جمع القرائن والشواهد المفيدة للاطمئنان على وثاقة الراوي أو خلافها، من أوثق الطرق وأسدِّها، ولكن سلوك ذاك الطريق يتوقَّف على وجود قابليات في السالك وصلاحيات فيه، ألزمُها التسلّط على طبقات الرواة والإحاطة على خصوصيات الراوي، من حيث المشايخ والتلاميذ، وكمّية رواياته من حيث القلَّة والكثرة، ومدى ضبطه، إلى غير ذلك من الأُمور التي لا تندرج تحت ضابط معيَّن، ولكنها تورث الاطمئنان الذي هو علم عرفاً ولا شكَّ في حجّيته)(٥٤).
ونحن لا نريد هنا استيعاب جميع القرائن والشواهد التي تورث الإطمئنان بوثاقة المترجَم له أو حسنه، وإنَّما هي مجرَّد محاولة متواضعة لتوثيق هذا الرجل أو تحسينه بحسب ما توفَّر لدينا من معطيات ومؤشِّرات، وربَّما يتمكَّن المختصّون وذوو الشأن من إضافة قرائن وشواهد أُخرى لا تقلُّ أهمّيةً عمَّا سنذكر.
وعلى أيِّ حال، فمن تلك القرائن والشواهد:
١ - روايته عن الثقاة: فقد ذكر أهل الفنِّ أنَّ الرواية عن الثقاة (مدح وأمارة للاعتماد)(٥٥)، بل لا يُستَبعد البعض إشعارها بالوثاقة، (إذ الغالب في من يروي عن الثقاة كونه متَّصفاً بحالهم)(٥٦).
ولا شكَّ أنَّ أقلَّ ما يمكن أن يستفاد من هذه المسألة هو أن نتَّخذها ولو قرينة تضاف إلى غيرها من القرائن، لنصل من خلال المجموع إلى الإطمئنان بالوثاقة أو الحسن.
وقد أشرنا فيما مضـى إلى اهتمام المترجَم له وحرصه على الاعتماد على مصادر موثوقة في تصنيفه لكتاب الشفاء والجلاء، كاعتماده على روايات أبي الحسين محمّد بن علي بن الفضل بن تمام الدهقان الكوفي الملقَّب بسكين الذي كان من الأجلَّاء والثقاة، وروايات أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي (ت ٣١٢هـ) وكيل الناحية المقدَّسة الذي كان (ثقةً، صحيح الحديث) بحسب تعبير النجاشي، والذي (مات على ظاهر العدالة لم يتغيَّر ولم يُطعَن عليه) بحسب ما ذكر الشيخ الطوسي، وروايات الشيخ الثقة الجليل أبي عبد الله الحسين بن علي بن سفيان بن خالد بن سفيان البزوفري، وروايات الشيخ الفقيه الثقة أبي علي أحمد بن إدريس الأشعري القمّي (ت ٣٠٦هـ).
٢ - قال البهبهاني - في الفائدة الثالثة في سائر أمارات الوثاقة والمدح والقوَّة من فوائده -: (ومنها رواية الجليل عنه، وهو أمارة الجلالة والقوَّة)، إلى أن قال: (وإذا كان الجليل ممَّن يطعن على الرجال في الرواية عن المجاهيل ونظائرها فربَّما يشير روايته عنه إلى الوثاقة)(٥٧).
فرواية الثقة الجليل عن الراوي مفيدة للمدح على أقلِّ تقدير، وكلَّما ارتفع مؤشِّر الوثاقة والجلالة في الراوي كلَّما ارتفع مؤشِّر الإشعار بالمدح في المروي عنه.
وقد روى عن المترجَم له - كما سيأتي - اثنان من ثقاة الطائفة ووجوهها وأجلَّائها، وهما: شيخ القمّيين ووجههم أبو الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي (ت ٣٦٨هـ)، وأُستاذ النجاشي ووجه الطائفة في بغداد أبو محمّد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري الشيباني (ت ٣٨٥هـ).
ولا ريب أنَّ اتِّصال هذين الجليلين بالرازي وروايتهما لكتبه - كما سيأتي - هو من أمارات المدح على أقلِّ تقدير، فإذا أضفنا إلى ذلك (روايته عن الثقاة) - كما مرَّ - كان نوراً على نور.
٣ - بل يمكن أن نعتبر رواية أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود - من حيث كونه قمّياً - بحدِّ ذاتها قرينة مستقلَّة كاشفة عن المدح والقوَّة على الأقلِّ، وذلك بعد ملاحظة ما ذكره أهل الاختصاص من كون رواية القمّيين عن شخص أمارة على الوثاقة أو المدح والقوَّة كحدٍّ أدنى، وذلك لما عُرفوا به من التشدِّد في اعتماد الحديث، ولذلك نجد المحقِّقين في الرجال يعتمدون على توثيقات القمّيين لتشدّدهم، ويتركون طعونهم لتسـرّعهم، (لأنَّهم يجرحون الرجال بأدنى كلمة، فلو ترضّوا على أحد صار توثيقاً له، ودليلاً على سلامة معتقده، وعليه يكون توثيقهم قد جاء بعد الفحص الشديد والتنقيب العالي، فمن اعتمده القمّيون فقد جاوز القنطرة)(٥٨).
قال الوحيد البهبهاني: (ومنها اعتماد القمّيين عليه أو روايتهم عنه، فإنَّه أمارة الاعتماد، بل الوثاقة)(٥٩).
وقال التستري - عن محمّد بن عبد الله الهاشمي -: عنونه النجاشي قائلاً: (له كتاب يرويه القمّيون يدلُّ على حسنه، لأنَّ مسلكهم التدقيق...)(٦٠).
٤ - بل يمكن القول إنَّ ما وصفه به الشيخ من كونه (ليس بذاك الثقة في الحديث) أو ما وصفه به النجاشي من أنَّه (لم يكن بذاك) هو نوع مدح له.
قال الوحيد البهبهاني: (ومنها: قولهم: ليس بذاك، وقد أخذه خالي رحمه الله ذمّاً، ولا يخلو من تأمّل، لاحتمال أن يُراد أنَّه ليس بحيث يوثق به وثوقاً تامّاً، وإن كان فيه نوع وثوق من قبيل قولهم: ليس بذاك الثقة، ولعلَّ هذا هو الظاهر، فيُشعِر على نوع مدح، فتأمَّل)(٦١).
وواضح أنَّ ما دعانا الوحيد البهبهاني للتأمّل فيه هو قولهم: (ليس بذاك)، أمَّا قولهم: (ليس بذاك الثقة) أو (ليس بذاك الثقة في الحديث)، فالظاهر أنَّه من ألفاظ المدح عنده، إذ لعلَّ: (لاحتمال أن يُراد أنَّه ليس بحيث يُوثَق به وثوقاً تامّاً وإن كان فيه نوع وثوق من قبيل قولهم: ليس بذاك الثقة)، أي لاحتمال أن يستفاد من قولهم: (ليس بذاك) ما يستفاد من قولهم: (ليس بذاك الثقة) في الدلالة على المدح والحسن.
قال السيِّد الأعرجي: (وكذلك قولهم: ليس بذاك، فإنَّه ربَّما عُدَّ قدحاً، وأنت تعلم أنَّه أكثر ما يُستَعمل في نفي المرتبة العليا، كما يقال: ليس بذلك الثقة، وليس بذلك الوجه، وليس بذلك البعيد، فكان فيه نوع من المدح)(٦٢).
وقال المازندراني بعد أن نقل أقوال علماء الرجال في حقِّ الرازي: (ودلالة قولهم: لم يكن بذاك الثقة، أو: لم يكن بذاك، على المدح أقرب منه إلى الذمِّ)(٦٣).
٥ - لو تأمَّلنا فيما نقله الشيخ الطوسي من روايات عن المترجَم له، لا نجد فيها ما يخالف الخطوط العريضة الثابتة لمذهب الاثني عشـرية، ولو فتَّشنا في تلك الروايات رواية رواية فإنَّنا لن نعثر فيها على شـيء ممَّا تعارف الغلاة على تناقله في رواياتهم، مع أنَّها روايات كثيرة نسبياً، وهي ذات طابع عقائدي على الأغلب، ومشحونة بالمفاهيم العقائدية.
بل إنَّ بعض تلك الروايات تضمَّنت الردّ على عقيدة أهل التفويض وإبطالها، والتفويض - كما هو معروف - أحد معاني الغلوّ(٦٤).
ونحن وإن لم يصلنا كتاب الشفاء والجلاء كاملاً، ولكنَّنا نستطيع أن نُعمِّم هذا الحكم على سائر رواياته بدليل استحسان الشيخ الطوسي له، فإنَّه يدلُّ على سلامة المفاهيم العقائدية التي اشتملت عليها روايات الكتاب، وانسجامها مع الخطوط العامَّة للمذهب الإمامي الاثني عشري.
والخلاصة: أنَّ تهمة الغلوِّ والارتفاع لم تثبت بحقِّ المترجَم له، بل هناك من القرائن ما يدلُّ على حسنه وقوَّته، بل قد يتشكَّل من ضمِّ تلك القرائن إلى بعضها ما يجعلنا نقترب من الاطمئنان بوثاقته.
وممَّن سلك هذا المنهج في توثيقه من المتأخِّرين: السيِّد محسن الأمين في أعيان الشيعة - معتمداً على بعض ما أشرنا إليه من قرائن وشواهد -، حيث قال: (أقول: يُؤيِّد وثاقته رواية الأجلَّاء كتبه، واستحسان الشيخ كتابه، وروى الشيخ عنه في كتاب الغيبة كثيراً، والنجاشي نسب غلوَّه إلى القيل إشارةً إلى عدم ثبوته عنده، وكثيراً ما كانوا يرون ما ليس بغلوّ غلوّاً، والله أعلم)(٦٥).
٦ - وقفة مع كتاب الشفاء والجلاء في الغيبة:
فيما يرتبط بكتاب الشفاء والجلاء في الغيبة توجد عدَّة نقاط ينبغي التنبيه عليها:
ألف - لعلَّ أقدم نصّ تاريخي نسب كتاب (الشفاء والجلاء في الغيبة) لأحمد بن علي الرازي هو الفهرست للشيخ الطوسي(٦٦)، قال - بعد عنونته ونقل تهمة الغلوّ في حقِّه -: (وله كتاب الشفاء والجلاء في الغيبة حسن)(٦٧).
ثمّ أكَّد عليه النجاشي ونصَّ على وجوده في رجاله(٦٨)، ثمّ نصَّ عليه بعد ذلك ابن شهر آشوب في المعالم(٦٩).
ثمّ أكَّد عليه كلُّ من ترجم للمصنِّف من أصحاب الفهارس المتأخِّرين كالشيخ الطهراني في الذريعة(٧٠)، والسيِّد الأمين في الأعيان(٧١)، وعمر كحالة في معجم المؤلِّفين(٧٢).
وهذا الكتاب يُعتَبر من أقدم الكتب في موضوعه، فهو من الأُصول التاريخية القديمة التي اغترف منها الشيخ الطوسي في غيبته، وربَّما يستفاد من بعض القرائن أنَّ المصنِّف قد بدأ بجمع روايات هذا الكتاب مع بدايات القرن الرابع الهجري(٧٣)، وفي هذه الفترة كان الجدل مشتعلاً حول موضوع الغيبة، ولو تأمَّلنا في كثرة الكتب المصنَّفة في الغيبة في هذه الفترة لعرفنا أنَّ هذا الموضوع كان من أهمّ المحاور العقائدية التي شغلت بال العلماء آنذاك.
باء - إنَّ النصَّ الوحيد الذي اشتمل على روايات الشفاء والجلاء هو كتاب الغيبة لشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (ت ٤٦٠هـ).
وأعتقد أنَّنا لسنا بحاجة إلى تعريف القارئ الكريم بالشيخ الطوسي، وبيان مكانته الروحية ومنزلته العلمية بين علماء الإماميَّة، فهو - بحسب تعبير الشيخ عبّاس القمّي -: (عماد الشيعة، ورافع اعلام الشـريعة، شيخ الطائفة على الاطلاق، ورئيسها الذى تُلوى إليه الأعناق، صنَّف في جميع علوم الإسلام، وكان القدوة في ذلك والإمام، وقد ملأت تصانيفه الأسماع، ووقع على قدمه وفضله الإجماع، من أكبر جهابذة الإسلام)(٧٤).
وأمَّا كتابه في الغيبة فهو من أقدم وأبرز المصادر التي تحدَّثت عن غيبة الإمام المهدي عليه السلام، وتكمن أهمّية هذا الكتاب - بالإضافة إلى انتسابه إلى شيخ الطائفة ورئيسها - في اشتماله على روايات جملة من الأُصول التاريخية المفقودة، مثل كتاب (الضياء في الردِّ على المحمّدية والجعفرية) لسعد بن عبد الله الأشعري القمّي (ت ٣٠١هـ)، وكتاب (أخبار الوكلاء الأربعة) لأحمد بن علي بن نوح السيرافي، وكتاب (الشفاء والجلاء في الغيبة) لأحمد بن علي الرازي، وغيرها من الأُصول التاريخية.
وقد نقل الشيخ الطوسي عن كتاب الشفاء والجلاء - بحسب تتبّعنا وتحقيقنا - (٣٠) رواية، وهي موزَّعة ومفرَّقة على ستَّة فصول من فصول الكتاب الثمانية وكالتالي:
١ - فصل في الكلام في الغيبة: تسعة أحاديث: (١٠٩)، (١٤٨)، ( ١٥٠)، (١٥١)، (١٥٢)، (١٥٣)، (١٥٤)، (١٧٤)، (١٨٠).
٢ - فصل فأمَّا الكلام في ولادة صاحب الزمان وصحَّتها فأشياء اعتبارية وأشياء إخبارية: خمسة أحاديث: (١٩٥)، (٢٠٦)، (بدون ترقيم)، (٢٠٨)، (٢١٦).
٣ - فصل وأمَّا ما روي من الأخبار المتضمِّنة لمن رآه عليه السلام: تسعة أحاديث: (٢٢٣)، (٢٢٤)، (٢٢٦)، (٢٢٧)، (٢٢٨)، (٢٣٤)، (٢٣٥)، (٢٣٧)، (٢٣٨).
٤ - فصل وأمَّا ظهور المعجزات الدالّة على صحَّة إمامته في زمان الغيبة: حديثان: (٢٤٥)، (٢٤٦).
٦ - فصل في ذكر طرف من أخبار السفراء الذين كانوا في حال الغيبة: حديثان: (٣٠٦)، (٣٠٨).
٧ - فصل فيما ذُكِرَ في بيان عمره عليه السلام: ثلاثة أحاديث: (٤٢٤)، (٤٣٥)، (٤٥٦).
وأمَّا الفصل الخامس الذي عقده المصنِّف (في ذكر العلَّة المانعة لصاحب الأمر عليه السلام من الظهور)، وكذلك الفصل الثامن الذي عقده (في ذكر طرف من صفاته ومنازله وسيرته عليه السلام) فقد خليا تماماً من روايات كتاب الشفاء والجلاء.
وقد قمنا باستخراج هذه الروايات واستلالها من كتاب الغيبة، ثمّ قمنا بترتيبها بحسب تسلسلها في الكتاب المذكور، ولم نغفل عن الإشارة إلى تسلسل الحديث في الهامش لنُسهِّل الأمر على من أراد التتبّع والرجوع إلى المصدر، علماً أنَّنا قد اعتمدنا في عملنا هذا على الطبعة المحقَّقة بتحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني، والشيخ علي أحمد ناصح.
جيم - أمَّا بخصوص سند الكتاب، فقد قال الشيخ في الفهرست: (وله كتاب الشفاء والجلاء في الغيبة حسن، كتاب الفرائض، كتاب الآداب، أخبرنا بهما(٧٥) الحسين بن عبيد الله، عن محمّد بن أحمد بن داود وهارون بن موسى التلعكبري جميعاً، عنه)(٧٦).
يظهر من خلال هذا النصّ أنَّ كتب المترجّم له - وبضمنها كتاب الشفاء والجلاء - قد وصلت إلى يد شيخ الطائفة عن طريق شيخه الحسين بن عبيد الله الغضائري الذي يروي هذا الكتاب عن المترجَم له عن طريقين، وهما: محمّد بن أحمد بن داود، وهارون بن موسى التلعكبري، وبالتالي يمكن أن نستنتج: أنَّ الغضائري كان يمتلك نسختين من هذا الكتاب، وأنَّ كلتا النسختين قد وصلتا إلى يد شيخ الطائفة.
ومع ذلك فالذي يظهر من التأمّل في أسانيد الروايات التي رواها الشيخ عن هذا الكتاب - كما سيأتي - هو أنَّ الشيخ قد اعتمد على نسخة التلعكبري، وأنَّ هذه النسخة لم تصله عن طريق شيخه الغضائري حصرياً، بل رواها عن جماعة من المشايخ - بضمنهم الغضائري - عن التلعكبري، وهذا ما نستظهره من قوله في صدر السند: (وأخبرنا جماعة، عن التلعكبري)، والذي كرَّره إحدى عشـرة مرَّة كما ستلاحظ.
وعلى أيِّ حالٍ، فينبغي لنا أن نقف وقفة قصيرة على كلِّ واحدٍ من هؤلاء الأعلام المذكورين في سند الكتاب.
١ - الحسين بن عبيد الله: هذا هو أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن إبراهيم الغضائري الأسدي الواسطي البغدادي (ت ٤١١هـ)، من شيوخ الطوسي والنجاشي.
كما أنَّه والد أبي الحسين أحمد بن الحسين بن عبيد الله صاحب كتاب (رجال ابن الغضائري) المشهور، وقد تتلمذ أحمد على يدي والده، وأخذ هذا العلم عنه.
وقد ذكره الشيخ الطوسي في الرجال في (من لم يروِ عن واحد من الأئمَّة)، فقال: (الحسين بن عبيد الله الغضائري، يُكنّى أبا عبد الله، كثير السماع، عارفٌ بالرجال، وله تصانيف ذكرناها في الفهرست. سمعنا منه، وأجاز لنا بجميع رواياته، مات سنة إحدى عشرة وأربعمائة)(٧٧).
ويبدو أنَّ ترجمة الغضائري قد سقطت من كتاب الفهرست، إذ أنَّ نسخ الفهرست المتوفِّرة خالية منها كما يُؤكِّد المحقِّقون.
أمَّا النجاشي فيقول فيه: (الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم الغضائري، أبو عبد الله، شيخنا رحمه الله، له كتب... أجازنا جميعها، وجميع رواياته عن شيوخه. ومات رحمه الله نصف شهر صفر سنة إحدى عشرة وأربعمائة)(٧٨).
٢ - محمّد بن أحمد بن داود: هو أبو الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي (ت ٣٦٨هـ)، شيخ القمّيين وفقيههم، بل شيخ الطائفة في وقته.
قال النجاشي في حقِّه: (محمّد بن أحمد بن داود بن علي، أبو الحسن، شيخ هذه الطائفة وعالمها، وشيخ القمّيين في وقته وفقيههم...، ومات أبو الحسن بن داود سنة ثمان وستّين وثلاثمائة، ودُفِنَ بمقابر قريش)(٧٩).
وترجم له الشيخ الطوسي في الفهرست، فقال: (محمّد بن أحمد بن داود القمّي، يُكنّى أبا الحسن، له كتب منها كتاب المزار كبير حسن، وكتاب الذخائر الذي جمعه كتاب حسن، وكتاب الممدوحين والمذمومين، وغير ذلك، أخبرنا بكتبه ورواياته جماعة منهم الشيخ المفيد رحمه الله والحسين بن عبيد الله وأحمد بن عبدون كلّهم عنه)(٨٠).
٣ - هارون بن موسى التلعكبري: هذا هو أبو محمّد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري الشيباني (ت ٣٨٥هـ).
و(التلعكبري) بفتح التاء واللام المشدَّدة وضمِّ العين المهملة وسكون الكاف وفتح الموحَّدة، نسبة إلى تل عكبرا، وعكبرا اسم بلدة من نواحى دُجيل، بينها وبين بغداد عشرة فراسخ(٨١).
قال عنه النجاشي: (كان وجهاً في أصحابنا، ثقةً، معتمداً، لا يُطعَن عليه. له كتب، منها كتاب الجوامع في علوم الدين. كنت أحضر في داره مع ابنه أبي جعفر، والناس يقرؤون عليه)(٨٢).
وقال عنه الشيخ الطوسي في الرجال: (هارون بن موسى التلعكبري، يُكنّى أبا محمّد، جليل القدر، عظيم المنزلة، واسع الرواية، عديم النظير، ثقة، روى جميع الأُصول والمصنَّفات، مات سنة خمس وثمانين وثلاثمائة، أخبرنا عنه جماعة من أصحابنا)(٨٣).
القسم الثاني
متن كتاب الشفاء والجلاء المستخرج من كتاب الغيبة
١ - وأخبرنا جماعة، عن التلعكبري، عن أبي علي أحمد بن علي الرازي الإيادي، قال: أخبرني الحسين بن علي، عن علي بن سنان الموصلي العدل، عن أحمد بن محمّد الخليلي، عن محمّد بن صالح الهمداني، عن سليمان بن أحمد، عن زياد بن مسلم وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن سلام، قال: سمعت أبا سلمى راعي النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (سمعت ليلة أُسري بي إلى السماء، قال العزيز جلَّ ثناؤه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ)، قلت: (وَالْمُؤْمِنُونَ) [البقرة: ٢٨٥]، قال: صدقت. يا محمّد، من خلَّفت لأُمَّتك؟ قلت: خيرها. قال: علي بن أبي طالب عليه السلام؟ قلت: نعم، يا ربِّ. قال: يا محمّد، إنّي اطَّلعت على الأرض اطِّلاعة فاخترتك منها، فشققت لك اسماً من أسمائي، فلا أُذكر في موضع إلَّا وذُكِرْتَ معي، فأنا المحمود وأنت محمّد. ثمّ اطَّلعت الثانية فاخترت منها عليّاً، وشققت له اسماً من أسمائي، فأنا الأعلى وهو عليٌّ. يا محمّد، إنّي خلقتك وخلقت عليّاً وفاطمة والحسن والحسين من شبح نور من نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرضين فمن قَبِلَها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين. يا محمّد، لو أنَّ عبداً من عبادي عبدني حتَّى ينقطع ويصير مثل الشنِّ البالي ثمّ أتاني جاحداً بولايتكم ما غفرت له حتَّى يقرَّ بولايتكم. يا محمّد، أتُحِبُّ أن تراهم؟ قلت: نعم يا ربِّ، فقال: التَفِتْ عن يمين العرش، فالتفت فإذا أنا بعلي وفاطمة والحسن والحسين وعلي ومحمّد وجعفر وموسى وعلي ومحمّد وعلي والحسن والمهدي عليهم السلام في ضحضاح من نور، قيام يُصلّون، والمهدي في وسطهم كأنَّه كوكب درّي. فقال: يا محمّد، هؤلاء الحجج، وهذا الثائر من عترتك. يا محمّد، وعزَّتي وجلالي إنَّه الحجَّة الواجبة لأوليائي، والمنتقم من أعدائي)(٨٤).
٢ - أخبرنا جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن عثمان بن أحمد السمّاك، عن إبراهيم بن العلاء الهاشمي، عن أبي المليح، عن زياد بن بيان، عن علي بن نفيل، عن سعيد بن المسيّب، عن أُمِّ سَلَمة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (المهدي من عترتي من ولد فاطمة)(٨٥).
٣ - ما أخبرني به جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن إسحاق المقرئ، عن علي بن العبّاس المقانعي، عن بكار بن أحمد، عن الحسن بن الحسين، عن سفيان الجريري، عن الفضيل بن الزبير، قال: سمعت زيد بن علي عليه السلام يقول: (هذا المنتظر من ولد الحسين بن علي في ذرّية الحسين وفي عقب الحسين عليه السلام، وهو المظلوم الذي قال الله تعالى: (مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ) [الإسراء: ٣٣])، قال: (وليُّه رجل من ذرّيته من عقبه، ثمّ قرأ: (وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ) [الزخرف: ٢٨]، (سُلْطاناً فَلا يُسْـرِفْ فِي الْقَتْلِ) [الإسراء: ٣٣])، قال: (سلطانه حجَّته على جميع من خلق الله تعالى حتَّى يكون له الحجَّة على الناس ولا يكون لأحد عليه حجَّة)(٨٦).
٤ - وبهذا الإسناد، عن سفيان الجريري، قال: سمعت محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: (والله لا يكون المهدي أبداً إلَّا من ولد الحسين عليه السلام)(٨٧).
٥ - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن علي الرازي، عن أحمد بن إدريس، عن علي بن محمّد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن إسماعيل بن عيّاش، عن الأعمش، عن أبي وائل، قال: نظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى إبنه الحسين عليه السلام، فقال: (إنَّ ابني هذا سيِّد كما سمّاه رسول الله سيِّداً، وسيُخرج الله تعالى من صلبه رجلاً باسم نبيِّكم، فيشبهه في الخَلْق والخُلُق، يخرج على حين غفلة من الناس، وإماتة من الحقِّ، وإظهار من الجور، والله لو لم يخرج لضُـرِبَت عنقه، يفرح لخروجه أهل السماء وسكّانها، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً وظلماً...) تمام الخبر(٨٨).
٦ - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن إدريس، عن علي بن محمّد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن عمرو بن عثمان، عن محمّد بن عذافر، عن عقبة بن يونس، عن عبد الله بن شريك، في حديث له اختصـرناه، قال: مرَّ الحسين عليه السلام على حلقة من بني أُميَّة وهم جلوس في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (أمَا والله لا تذهب الدنيا حتَّى يبعث الله منّي رجلاً يقتل منكم ألفاً ومع الألف ألفاً ومع الألف ألفاً). فقلت: جُعلت فداك، إنَّ هؤلاء أولاد كذا وكذا لا يبلغون هذا. فقال: (ويحك إنَّ في ذلك الزمان يكون للرجل من صلبه كذا وكذا رجلاً، وإنَّ مولى القوم من أنفسهم)(٨٩).
٧ - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن إدريس، عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد الأهوازي، عن الحسين بن علوان، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري في حديث له طويل اختصـرناه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة عليها السلام: (يا بنيَّة! إنّا أُعطينا أهل البيت سبعاً لم يُعطَها أحد قبلنا، نبيُّنا خير الأنبياء وهو أبوكِ، ووصيُّنا خير الأوصياء وهو بعلكِ، وشهيدنا خير الشهداء وهو عمُّ أبيكِ حمزة، ومنّا من له جناحان خضيبان يطير بهما في الجنَّة وهو ابن عمِّكِ جعفر، ومنّا سبطا هذه الأُمَّة وهما ابناكِ الحسن والحسين، ومنّا والله الذي لا إله إلَّا هو مهدي هذه الأُمَّة الذي يُصلّي خلفه عيسى بن مريم)، ثمّ ضرب بيده على منكب الحسين عليه السلام، فقال: (من هذا) ثلاثاً(٩٠).
٨ - وأخبرني جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن الحسين بن علي، عن محمّد بن الحسن بن رزين، قال: حدَّثني أبو الحسن الموسوي الخيبري، قال: حدَّثني أبي أنَّه كان يغشى أبا محمّد عليه السلام بسُـرَّ من رأى كثيراً، وأنَّه أتاه يوماً فوجده وقد قدَّمت إليه دابَّته ليركب إلى دار السلطان، وهو متغيِّر اللون من الغضب، وكان يجيئه رجل من العامَّة، فإذا ركب دعا له وجاء بأشياء يشيع بها عليه، فكان عليه السلام يكره ذلك. فلمَّا كان ذلك اليوم زاد الرجل في الكلام وألحَّ، فسار حتَّى انتهى إلى مفرق الطريقين، وضاق على الرجل أحدهما من الدواب، فعدل إلى طريق يخرج منه ويلقاه فيه، فدعا عليه السلام ببعض خدمه وقال له: (امض فكفِّن هذا)، فتبعه الخادم. فلمَّا انتهى عليه السلام إلى السوق ونحن معه، خرج الرجل من الدرب ليعارضه، وكان في الموضع بغل واقف، فضربه البغل فقتله، ووقف الغلام فكفَّنه كما أمره، وسار عليه السلام وسرنا معه(٩١).
٩ - أخبرني جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن الحسين بن علي، عن أبي الحسن الإيادي، قال: حدَّثني أبو جعفر العمري (رضـي الله عنه) أنَّ أبا طاهر بن بلال حجَّ، فنظر علي بن جعفر الهماني وهو يُنفِق النفقات العظيمة، فلمَّا انصـرف كتب بذلك إلى أبي محمّد عليه السلام فوقَّع في رقعته: (قد كنّا أمرنا له بمائة ألف دينار، ثمّ أمرنا له بمثلها فأبى قبولها إبقاءً علينا، ما للناس والدخول في أمرنا فيما لم نُدخِلهم فيه؟)(٩٢).
١٠ - أخبرنا جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، قال: حدَّثني محمّد بن علي، عن حنظلة بن زكريا، عن الثقة، قال: حدَّثني عبد الله بن العبّاس العلوي - وما رأيت أصدق لهجةً منه، وكان خالفنا في أشياء كثيرة -، قال: حدَّثني أبو الفضل الحسين بن الحسن العلوي، قال: دخلت على أبي محمّد عليه السلام بسُـرَّ من رأى، فهنَّأته بسيِّدنا صاحب الزمان عليه السلام لـمَّا وُلِدَ(٩٣).
١١ - أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن علي بن سميع بن بنان، عن محمّد بن علي بن أبي الداري، عن أحمد بن محمّد، عن أحمد بن عبد الله، عن أحمد بن روح الأهوازي، عن محمّد بن إبراهيم، عن حكيمة بمثل معنى الحديث الأوَّل(٩٤) إلَّا أنَّه قال: قالت: بعث إليَّ أبو محمّد عليه السلام ليلة النصف من شهر رمضان سنه خمس وخمسين ومائتين، قالت: وقلت له: يا بن رسول الله، من أُمُّه؟ قال: (نرجس)، قالت: فلمَّا كان في اليوم الثالث اشتدَّ شوقي إلى وليِّ الله، فأتيتهم عائدة، فبدأت بالحجرة التي فيها الجارية، فإذا أنا بها جالسة في مجلس المرأة النفساء وعليها أثواب صفر، وهي معصَّبة الرأس، فسلَّمت عليها والتفتُّ إلى جانب البيت، وإذا بمهد عليه أثواب خضـر، فعدلت إلى المهد ورفعت عنه الأثواب فإذا أنا بوليِّ الله نائم على قفاه غير محزوم ولا مقموط، ففتح عينيه وجعل يضحك ويناجيني بإصبعه، فتناولته وأدنيته إلى فمي لأُقبِّله، فشممت منه رائحة ما شممت قطّ أطيب منها، وناداني أبو محمّد عليه السلام: (يا عمَّتي، هلمّي فتاي إليَّ)، فتناوله، وقال: (يا بنيَّ، أنطق)، وذكر الحديث. قالت: ثمّ تناولته منه وهو يقول: (يا بني، أستودعك الذي استودعته أُمُّ موسى، كن في دعة الله وستره وكنفه وجواره)، وقال: (ردّيه إلى أُمِّه يا عمَّة، واكتمي خبر هذا المولود علينا، ولا تُخبري به أحداً حتَّى يبلغ الكتاب أجله)، فأتيت أُمَّه وودَّعتهم... وذكر الحديث إلى آخره(٩٥).
١٢ - أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن حنظلة بن زكريا، قال: حدَّثني الثقة، عن محمّد بن علي بن بلال، عن حكيمة، بمثل ذلك(٩٦).
١٣ - أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن حنظلة بن زكريا، قال: حدَّثني أحمد بن بلال بن داود الكاتب، وكان عامّياً بمحلٍّ من النصب لأهل البيت عليهم السلام، يُظهِر ذلك ولا يكتمه، وكان صديقاً لي يُظهِر مودَّة بما فيه من طبع أهل العراق، فيقول - كلَّما لقيني -: لك عندي خبر تفرح به ولا أُخبرك به، فأتغافل عنه، إلى أن جمعني وإيّاه موضع خلوة، فاستقصيت عنه وسألته أن يُخبِرني به، فقال: كانت دورنا بسُـرَّ من رأى مقابل دار ابن الرضا - يعني أبا محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام -، فغبت عنها دهراً طويلاً إلى قزوين وغيرها، ثمّ قضـي لي الرجوع إليها، فلمَّا وافيتها وقد كنت فقدت جميع من خلَّفته من أهلي وقراباتي إلَّا عجوزاً كانت ربَّتني، ولها بنت معها، وكانت من طبع الأُوَل مستورة صائنة لا تُحسِن الكذب، وكذلك مواليات لنا بقين في الدار، فأقمت عندهنَّ أيّاماً، ثمّ عزمت الخروج، فقالت العجوزة: كيف تستعجل الانصـراف وقد غبت زماناً؟ فأقم عندنا لنفرح بمكانك، فقلت لها على جهة الهزء: أُريد أن أصير إلى كربلاء، وكان الناس للخروج في النصف من شعبان أو ليوم عرفة، فقالت: يا بنيَّ، أُعيذك بالله أن تستهين ما ذكرت أو تقوله على وجه الهزء، فإنّي أُحدِّثك بما رأيته - يعني بعد خروجك من عندنا بسنتين -. كنت في هذا البيت نائمة بالقرب من الدهليز، ومعي ابنتي، وأنا بين النائمة واليقظانة إذ دخل رجل حسن الوجه نظيف الثياب طيِّب الرائحة، فقال: يا فلانة، يجيئك الساعة من يدعوك في الجيران، فلا تمتنعي من الذهاب معه ولا تخافي، ففزعت، فناديت ابنتي، وقلت لها: هل شعرت بأحد دخل البيت؟ فقالت: لا، فذكرت الله وقرأت ونمت، فجاء الرجل بعينه وقال لي مثل قوله، ففزعت، وصحت بابنتي، فقالت: لم يدخل البيت [أحد]، فاذكري الله ولا تفزعي، فقرأت، ونمت. فلمَّا كان في [الليلة] الثالثة جاء الرجل وقال: يا فلانة، قد جاءك من يدعوك ويقرع الباب فاذهبي معه، وسمعت دقَّ الباب فقمت وراء الباب وقلت: من هذا؟ فقال: افتحي ولا تخافي، فعرفت كلامه، وفتحت الباب فإذا خادم معه إزار، فقال: يحتاج إليك بعض الجيران لحاجة مهمَّة، فادخلي، ولفَّ رأسـي بالملاءة وأدخلني الدار وأنا أعرفها، فإذا بشقاق مشدودة وسط الدار ورجل قاعد بجنب الشقاق، فرفع الخادم طرفه، فدخلت وإذا امرأة قد أخذها الطلق وامرأة قاعدة خلفها كأنَّها تُقبِّلها. فقالت المرأة: تعيننا فيما نحن فيه، فعالجتها بما يُعالَج به مثلها، فما كان إلَّا قليلاً حتَّى سقط غلام، فأخذته على كفّي وصحت: غلام غلام، وأخرجت رأسي من طرف الشقاق أبشـر الرجل القاعد، فقيل لي: لا تصيحي، فلمَّا رددت وجهي إلى الغلام قد كنت فقدته من كفّي، فقالت لي المرأة القاعدة: لا تصيحي، وأخذ الخادم بيدي ولفَّ رأسـي بالملاء ة وأخرجني من الدار، وردَّني إلى داري، وناولني صرَّة، وقال لي: لا تُخبري بما رأيتِ أحداً. فدخلت الدار ورجعت إلى فراشي في هذا البيت وابنتي نائمة [بعد]، فأنبهتها وسألتها: هل علمت بخروجي ورجوعي؟ فقالت: لا، وفتحت الصـرَّة في ذلك الوقت، وإذا فيها عشـرة دنانير عدداً، وما أخبرت بهذا أحداً إلَّا في هذا الوقت لـمَّا تكلَّمت بهذا الكلام على حدِّ الهزء، فحدَّثتك إشفاقاً عليك، فإنَّ لهؤلاء القوم عند الله (عزَّ وجلَّ) شأناً ومنزلةً، وكلُّ ما يدعونه حقٌّ، قال: فعجبت من قولها، وصرفته إلى السخرية والهزء، ولم أسألها عن الوقت، غير أنّي أعلم يقيناً أنّي غبت عنهم في سنة نيف وخمسين ومائتين ورجعت إلى سُـرَّ من رأى في وقت أخبرتني العجوزة بهذا الخبر في سنة إحدى وثمانين ومائتين في وزارة عبيد الله بن سليمان لـمَّا قصدته. قال حنظلة: فدعوت بأبي الفرج المظفَّر بن أحمد حتَّى سمع معي [منه] هذا الخبر(٩٧).
١٤ - جعفر بن محمّد بن مالك، قال: حدَّثني محمّد بن جعفر بن عبد الله، عن أبي نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري، قال: وجَّه قوم من المفوّضة والمقصّـرة كامل بن إبراهيم المدني إلى أبي محمّد عليه السلام، قال كامل: فقلت في نفسـي: أسأله: لا يدخل الجنَّة إلَّا من عرف معرفتي وقال بمقالتي، قال: فلمَّا دخلت على سيِّدي أبي محمّد عليه السلام نظرت إلى ثياب بياض ناعمة عليه، فقلت في نفسي: وليُّ الله وحجَّته يلبس الناعم من الثياب ويأمرنا نحن بمواساة الإخوان وينهانا عن لبس مثله. فقال متبسِّماً: (يا كامل)، وحسـر عن ذراعيه، فإذا مسح أسود خشن على جلده، فقال: (هذا لله، وهذا لكم)، فسلَّمت وجلست إلى باب عليه ستر مرخى، فجاءت الريح فكشفت طرفه، فإذا أنا بفتى كأنَّه فلقة قمر من أبناء أربع سنين أو مثلها. فقال لي: (يا كامل بن إبراهيم)، فاقشعررت من ذلك وأُلهمت أن قلت: لبّيك يا سيِّدي، فقال: (جئت إلى وليِّ الله وحجَّته وبابه تسأله: هل يدخل الجنَّة إلَّا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟)، فقلت: إي والله، قال: (إذن والله يقلُّ داخلها، والله إنَّه ليدخلها قوم يقال لهم: الحقّية)، قلت: يا سيِّدي، ومن هم؟ قال: (قوم من حبِّهم لعلي يحلفون بحقِّه ولا يدرون ما حقَّه وفضله). ثمّ سكت صلوات الله عليه عنّي ساعة، ثمّ قال: (وجئت تسأله عن مقالة المفوّضة، كذبوا، بل قلوبنا أوعية لمشيَّة الله، فإذا شاء شئنا، والله يقول: (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الإنسان: ٣٠]). ثمّ رجع الستر إلى حالته، فلم أستطع كشفه، فنظر إليَّ أبو محمّد عليه السلام متبسِّماً، فقال: (يا كامل، ما جلوسك وقد أنبأك بحاجتك الحجَّة من بعدي؟)، فقمت وخرجت ولم أُعاينه بعد ذلك.
قال أبو نعيم: فلقيت كاملاً، فسألته عن هذا الحديث، فحدَّثني به.
وروى هذا الخبر أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن علي بن عبد الله بن عائذ الرازي، عن الحسن بن وجناء النصيبي، قال: سمعت أبا نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري، وذكر مثله(٩٨).
١٥ - أخبرنا جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسى التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، قال: حدَّثني شيخ ورد الري على أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي، فروى له حديثين في صاحب الزمان عليه السلام وسمعتهما منه كما سمع، وأظنُّ ذلك قبل سنة ثلاثمائة أو قريباً منها، قال: حدَّثني علي بن إبراهيم الفدكي، قال: قال الأودي: بينا أنا في الطواف قد طفت ستَّة وأُريد أن أطوف السابعة، فإذا أنا بحلقة عن يمين الكعبة، وشاب حسن الوجه، طيِّب الرائحة، هيوب، ومع هيبته متقرِّب إلى الناس، فتكلَّم فلم أرَ أحسن من كلامه، ولا أعذب من منطقه في حسن جلوسه، فذهبت أُكلِّمه، فزبرني الناس، فسألت بعضهم: من هذا؟ فقال: ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يظهر للناس في كلِّ سنة يوماً لخواصِّه، فيُحدِّثهم ويُحدِّثونه، فقلت: مسترشد أتاك فأرشدني هداك الله. قال: فناولني حصاة، فحوَّلت وجهي، فقال لي بعض جلسائه: ما الذي دفع إليك ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقلت: حصاة، فكشفت عن يدي، فإذا أنا بسبيكة من ذهب، [فذهبت] وإذا أنا به قد لحقني فقال: (ثبتت عليك الحجَّة، وظهر لك الحقُّ، وذهب عنك العمى؟ أتعرفني؟)، فقلت: اللّهمّ لا. فقال: ((أنا) المهدي، أنا قائم الزمان، أنا الذي أملأها عدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، إنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة، ولا يبقى الناس في فترة أكثر من تيه بني إسرائيل، وقد ظهر أيّام خروجي، فهذه أمانة في رقبتك، فحدِّث بها إخوانك من أهل الحقِّ)(٩٩).
١٦ - وبهذا الإسناد، عن أحمد بن علي الرازي، قال: حدَّثني محمّد بن علي، عن محمّد بن أحمد بن خلف، قال: نزلنا مسجداً في المنزل المعروف بالعبّاسية - على مرحلتين من فسطاط مصـر -، وتفرَّق غلماني في النزول، وبقي معي في المسجد غلام أعجمي، فرأيت في زاويته شيخاً كثير التسبيح، فلمَّا زالت الشمس ركعت وسجدت وصلَّيت الظهر في أوَّل وقتها، ودعوت بالطعام، وسألت الشيخ أن يأكل معي، فأجابني. فلمَّا طعمنا سألت عن اسمه واسم أبيه وعن بلده وحرفته ومقصده، فذكر أنَّ اسمه محمّد بن عبد الله، وأنَّه من أهل قم، وذكر أنَّه يسيح منذ ثلاثين سنة في طلب الحقِّ ويتنقل في البلدان والسواحل، وأنَّه أوطن مكّة والمدينة نحو عشـرين سنة يبحث عن الأخبار ويتبع الآثار، فلمَّا كان في سنة ثلاث وتسعين ومائتين طاف بالبيت، ثمّ صار إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فركع فيه، وغلبته عينه، فأنبهه صوت دعاء لم يجر في سمعه مثله، قال: فتأمَّلت الداعي فإذا هو شاب أسمر لم أرَ قطّ في حسن صورته واعتدال قامته، ثمّ صلّى فخرج وسعى، فاتَّبعته وأوقع الله (عزَّ وجلَّ) في نفسـي أنَّه صاحب الزمان عليه السلام. فلمَّا فرغ من سعيه قصد بعض الشعاب، فقصدت أثره، فلمَّا قربت منه إذ أنا بأسود مثل الفنيق قد اعترضني فصاح بي بصوت لم أسمع أهول منه: ما تريد عافاك الله؟ فأرعدت ووقفت، وزال الشخص عن بصـري وبقيت متحيِّراً. فلمَّا طال بي الوقوف والحيرة انصـرفت ألوم نفسـي وأعذلها بانصـرافي بزجرة الأسود، فخلوت بربِّي (عزَّ وجلَّ) أدعوه وأسأله بحقِّ رسوله وآله عليهم السلام أن لا يخيب سعيي، وأن يُظهِر لي ما يُثبِّت به قلبي ويزيد في بصـري. فلمَّا كان بعد سنين زرت قبر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، فبينا أنا (أُصلّي) في الروضة التي بين القبر والمنبر إذ غلبتني عيني، فإذا محرِّك يُحرِّكني، فاستيقظت فإذا أنا بالأسود، فقال: ما خبرك؟ وكيف كنت؟ فقلت: أحمد الله وأُذمِّك، فقال: لا تفعل فإنّي أُمرت بما خاطبتك به، وقد أدركت خيراً كثيراً، فطب نفساً وازدد من الشكر لله (عزَّ وجلَّ) ما أدركت وعاينت، ما فعل فلان؟ وسمّى بعض إخواني المستبصـرين، فقلت: ببرقة، فقال: صدقت، ففلان؟ وسمّى رفيقاً لي مجتهداً في العبادة، مستبصـراً في الديانة، فقلت: بالإسكندرية، حتَّى سمّى لي عدَّة من إخواني. ثمّ ذكر اسماً غريباً فقال: ما فعل نقفور؟ قلت: لا أعرفه، فقال: كيف تعرفه وهو رومي؟ فيهديه الله فيخرج ناصـراً من قسطنطينية. ثمّ سألني عن رجل آخر فقلت: لا أعرفه، فقال: هذا رجل من أهل هيت من أنصار مولاي عليه السلام، امض إلى أصحابك فقل لهم: نرجو أن يكون قد أذن الله في الانتصار للمستضعفين وفي الانتقام من الظالمين، ولقد لقيت جماعة من أصحابي وأدَّيت إليهم وأبلغتهم ما حُمِّلت وأنا منصـرف، وأُشير عليك أن لا تتلبَّس بما يثقل به ظهرك، ويتعب به جسمك، وأن تُحبس نفسك على طاعة ربِّك، فإنَّ الأمر قريب إن شاء الله تعالى. فأمرت خازني فأحضر لي خمسين ديناراً، وسألته قبولها، فقال: يا أخي، قد حرَّم الله عليَّ أن آخذ منك ما أنا مستغنٍ عنه، كما أحلَّ لي أن آخذ منك الشـيء إذا احتجت إليه، فقلت له: هل سمع هذا الكلام منك أحد غيري من أصحاب السلطان؟ فقال: نعم (أخوك) أحمد بن الحسين الهمداني المدفوع عن نعمته بآذربيجان، وقد استأذن للحجِّ تأميلاً أن يلقى من لقيت، فحجَّ أحمد بن الحسين الهمداني رحمه الله في تلك السنة فقتله ذكرويه بن مهرويه، وافترقنا وانصـرفت إلى الثغر. ثمّ حججت فلقيت بالمدينة رجلاً اسمه طاهر من ولد الحسين الأصغر، يقال: إنَّه يعلم من هذا الأمر شيئاً، فثابرت عليه حتَّى أنس بي، وسكن لي ووقف على صحَّة عقيدتي، فقلت له: يا بن رسول الله، بحقِّ آبائك الطاهرين عليهم السلام لما جعلتني مثلك في العلم بهذا الأمر، فقد شهد عندي من توثِّقه بقصد القاسم بن عبد الله بن سليمان بن وهب إيّاي لمذهبي واعتقادي، وأنَّه أغرى بدمي مراراً، فسلَّمني الله منه. فقال: يا أخي، أُكتم ما تسمع منّي الخبر في هذه الجبال، وإنَّما يرى العجائب الذين يحملون الزاد في الليل ويقصدون به مواضع يعرفونها، وقد نهينا عن الفحص والتفتيش، فودَّعته وانصرفت عنه(١٠٠).
١٧ - أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن محمّد بن عبد ربِّه الأنصاري الهمداني، عن أحمد بن عبد الله الهاشمي من ولد العبّاس، قال: حضـرت دار أبي محمّد الحسن بن علي عليهما السلام بسُـرَّ من رأى يوم توفّي، وأُخرجت جنازته ووُضِعَت، ونحن تسعة وثلاثون رجلاً قعود ننتظر، حتَّى خرج إلينا غلام عشاري حافٍ، عليه رداء قد تقنَّع به. فلمَّا أن خرج قمنا هيبةً له من غير أن نعرفه، فتقدَّم وقام الناس فاصطفّوا خلفه، فصلّى عليه ومشى، فدخل بيتاً غير الذي خرج منه. قال أبو عبد الله الهمداني: فلقيت بالمراغة رجلاً من أهل تبريز يُعرَف بإبراهيم بن محمّد التبريزي، فحدَّثني بمثل حديث الهاشمي لم يخرم منه شيء، قال: فسألت الهمداني فقلت: غلام عشاري القدّ أو عشاري السنّ؟ لأنَّه روي أنَّ الولادة كانت سنة ستّ وخمسين ومائتين، وكانت غيبة أبي محمّد عليه السلام سنة ستَّة ومائتين بعد الولادة بأربع سنين. فقال: لا أدري، هكذا سمعت، فقال لي شيخ معه حسن الفهم من أهل بلده له رواية وعلم: عشاري القدّ(١٠١).
١٨ - عنه(١٠٢)، عن علي بن عائذ الرازي، عن الحسن بن وجناء النصيبي، عن أبي نعيم محمّد بن أحمد الأنصاري، قال: كنت حاضراً عند المستجار بمكّة وجماعة زهاء ثلاثين رجلاً لم يكن منهم مخلص غير محمّد بن القاسم العلوي، فبينا نحن كذلك في اليوم السادس من ذي الحجَّة سنة ثلاث وتسعين ومائتين، إذ خرج علينا شاب من الطواف عليه إزاران فاحتجَّ محرم بهما، وفي يده نعلان. فلمَّا رأيناه قمنا جميعاً هيبةً له، ولم يبقَ منّا أحد إلَّا قام، فسلَّم علينا وجلس متوسِّطاً ونحن حوله، ثمّ التفت يميناً وشمالاً، ثمّ قال: (أتدرون ما كان أبو عبد الله عليه السلام يقول في دعاء الإلحاح؟)، قلنا: وما كان يقول؟ قال: (كان يقول: اللّهمّ إنّي أسألك باسمك الذي به تقوم السماء، وبه تقوم الأرض، وبه تُفرِّق بين الحقِّ والباطل، وبه تجمع بين المتفرِّق، وبه تُفرِّق بين المجتمع، وبه أحصيت عدد الرمال، وزنة الجبال، وكَيْلِ البحار، أن تُصلّي على محمّد وآل محمّد، وأن تجعل لي من أمري فرجاً). ثمّ نهض ودخل الطواف، فقمنا لقيامه حتَّى انصرف، وأنسينا أن نذكر أمره، وأن نقول: من هو؟ وأيّ شـيء هو؟ إلى الغد في ذلك الوقت، فخرج علينا من الطواف، فقمنا له كقيامنا بالأمس، وجلس في مجلسه متوسِّطاً، فنظر يميناً وشمالاً وقال: (أتدرون ما كان يقول أمير المؤمنين عليه السلام بعد صلاة الفريضة؟)، فقلنا: وما كان يقول؟ قال: (كان يقول: إليك رُفِعَت الأصوات، [ودُعِيَت الدعوات، ولك] عنت الوجوه، ولك وُضِعَت الرقاب، وإليك التحاكم في الأعمال، يا خير من سُئِلَ، ويا خير من أعطي، يا صادق يا بارئ، يا من لا يخلف الميعاد، يا من أمر بالدعاء ووعد بالإجابة، يا من قال: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: ٦٠]، يا من قال: (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: ١٨٦]، ويا من قال: (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) [الزمر: ٥٣]، لبّيك وسعديك، ها أنا ذا بين يديك المسـرف، وأنت القائل: (لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)). ثمّ نظر يميناً وشمالاً - بعد هذا الدعاء -، فقال: (أتدرون ما كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول في سجدة الشكر؟)، فقلنا: وما كان يقول؟ قال: (كان يقول: يا من لا يزيده كثرة الدعاء إلَّا سعةً وعطاءً، يا من لا تنفد خزائنه، يا من له خزائن السماوات والأرض، يا من له خزائن ما دقَّ وجلَّ، لا تمنعك إساءتي من إحسانك، أنت تفعل بي الذي أنت أهله، (فإنَّك) أنت أهل الكرم والجود، والعفو والتجاوز، يا ربِّ، يا الله، لا تفعل بي الذي أنا أهله، فإنّي أهل العقوبة وقد استحققتها، لا حجَّة (لي) ولا عذر لي عندك، أبوء لك بذنوبي كلّها، وأعترف بها كي تعفو عنّي، وأنت أعلم بها منّي، أبوء لك بكلِّ ذنب أذنبته، وكلِّ خطيئة احتملتها، وكلِّ سيِّئة عملتها، ربِّ اغفر وارحم، وتجاوز عمَّا تعلم، إنَّك أنت الأعزّ الأكرم). وقام ودخل الطواف فقمنا لقيامه، وعاد من الغد في ذلك الوقت، فقمنا لإقباله كفعلنا فيما مضـى، فجلس متوسِّطاً، ونظر يميناً وشمالاً فقال: (كان عليُّ بن الحسين سيِّد العابدين عليه السلام يقول في سجوده في هذا الموضع - وأشار بيده إلى الحجر تحت الميزاب -: عبيدك بفنائك، مسكينك بفنائك، فقيرك بفنائك، سائلك بفنائك، يسألك ما لا يقدر عليه غيرك). ثمّ نظر يميناً وشمالاً، ونظر إلى محمّد بن القاسم من بيننا، فقال: (يا محمّد بن القاسم أنت على خير إن شاء الله تعالى)، وكان محمّد بن القاسم يقول بهذا الأمر. ثمّ قام ودخل الطواف فما بقي منّا أحد إلَّا وقد أُلهم ما ذكره من الدعاء وأنسينا أن نتذاكر أمر إلَّا في آخر يوم. فقال لنا أبو عليّ المحمودي: يا قوم، أتعرفون هذا؟ هذا والله صاحب زمانكم، فقلنا: وكيف علمت يا أبا عليّ؟ فذكر أنَّه مكث سبع سنين يدعو ربَّه ويسأله معاينة صاحب الزمان عليه السلام. قال: فبينا نحن يوماً عشية عرفة وإذا بالرجل بعينه يدعو بدعاء وعيته، فسألته ممَّن هو؟ فقال: (من الناس)، قلت: من أيِّ الناس؟ قال: (من عربها)، قلت: من أيِّ عربها؟ قال: (من أشرفها)، قلت : ومن هم؟ قال: (بنو هاشم)، قلت: [و]من أيِّ بنو هاشم؟ فقال: (من أعلاها ذروةً وأسناها)، قلت: ممَّن؟ قال: (ممَّن فلق الهام، وأطعم الطعام، وصلّى والناس نيام). قال: فعلمت أنَّه علوي، فأحببته على العلوية. ثمّ افتقدته من بين يدي، فلم أدر كيف مضـى، فسألت القوم الذين كانوا حوله: تعرفون هذا العلوي؟ قالوا: نعم، يحجُّ معنا في كلِّ سنة ماشياً، فقلت: سبحان الله، (والله) ما أرى به أثر مشـي، قال: فانصـرفت إلى المزدلفة كئيباً حزيناً على فراقه، ونمت من ليلتي تلك، فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: (يا أحمد، رأيت طلبتك؟)، فقلت: ومن ذاك يا سيِّدي؟ فقال: (الذي رأيته في عشيَّتك، (و)هو صاحب زمانك). قال: فلمَّا سمعنا ذلك منه عاتبناه أن لا يكون أعلمنا ذلك، فذكر أنَّه كان ينسى أمره إلى وقت ما حدَّثنا به(١٠٣).
١٩ - وأخبرنا جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن علي بن الحسين، عن رجل - ذكر أنَّه من أهل قزوين لم يذكر اسمه -، عن حبيب بن محمّد بن يونس بن شاذان الصنعاني، قال: دخلت إلى علي بن إبراهيم بن مهزيار الأهوازي، فسألته عن آل أبي محمّد عليه السلام، فقال: يا أخي، لقد سألت عن أمر عظيم، حججت عشـرين حجَّة كلًّا أطلب به عيان الإمام، فلم أجد إلى ذلك سبيلاً، فبينا أنا ليلة نائم في مرقدي إذ رأيت قائلاً يقول: يا عليّ بن إبراهيم، قد أذن الله لك في الحجِّ، فلم أعقل ليلتي حتَّى أصبحت، فأنا مفكِّر في أمري أرقب الموسم ليلي ونهاري. فلمَّا كان وقت الموسم أصلحت أمري، وخرجت متوجِّهاً نحو المدينة، فما زلت كذلك حتَّى دخلت يثرب فسألت عن آل أبي محمّد عليه السلام، فلم أجد له أثراً، ولا سمعت له خبراً، فأقمت مفكِّراً في أمري حتَّى خرجت من المدينة أُريد مكّة، فدخلت الجحفة، وأقمت بها يوماً، وخرجت منها متوجِّهاً نحو الغدير، وهو على أربعة أميال من الجحفة، فلمَّا أن دخلت المسجد صلَّيت وعفَّرت واجتهدت في الدعاء، وابتهلت إلى الله لهم، وخرجت أُريد عسفان، فما زلت كذلك حتَّى دخلت مكّة، فأقمت بها أيّاماً أطوف البيت واعتكفت. فبينا أنا ليلة في الطواف، إذا أنا بفتى حسن الوجه، طيِّب الرائحة، يتبختر في مشيته، طائف حول البيت، فحسَّ قلبي به، فقمت نحوه، فحككته، فقال لي: من أين الرجل؟ فقلت: من أهل [العراق، فقال: من أيِّ] العراق؟ قلت: من الأهواز. فقال لي: تعرف بها الخصيب؟ فقلت: رحمه الله، دعي فأجاب، فقال: رحمه الله، فما كان أطول ليلته وأكثر تبتّله وأغزر دمعته، أفتعرف عليّ بن إبراهيم بن المازيار؟ فقلت: أنا عليّ بن إبراهيم. فقال: حيّاك الله أبا الحسن، ما فعلت بالعلامة التي بينك وبين أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام؟ فقلت: معي، قال: أخرجها، فأدخلت يدي في جيبي فاستخرجتها، فلمَّا أن رآها لم يتمالك أن تغرغرت عيناه (بالدموع) وبكى منتحباً حتَّى بل أطماره، ثمّ قال: أُذِنَ لك الآن يا بن مازيار، صر إلى رحلك وكن على أُهبَّة من أمرك، حتَّى إذا لبس الليل جلبابه، وغمر الناس ظلامه، سر إلى شعب بني عامر، فإنَّك ستلقاني هناك. فسـرت إلى منزلي، فلمَّا أن أحسست بالوقت أصلحت رحلي، وقدمت راحلتي وعكمته شديداً، وحملت وصرت في متنه، وأقبلت مجدَّاً في السير حتَّى وردت الشعب، فإذا أنا بالفتى قائم ينادي: يا أبا الحسن إليَّ. فما زلت نحوه، فلمَّا قربت بدأني بالسلام، وقال لي: سر بنا يا أخ، فما زال يُحدِّثني وأُحدِّثه حتَّى تخرَّقنا جبال عرفات، وسرنا إلى جبال منى، وانفجر الفجر الأوَّل، ونحن قد توسَّطنا جبال الطائف. فلمَّا أن كان هناك أمرني بالنزول، وقال لي: انزل فصل صلاة الليل، فصليت، وأمرني بالوتر فأوترت، وكانت فائدة منه، ثمّ أمرني بالسجود والتعقيب، ثمّ فرغ من صلاته وركب، وأمرني بالركوب وسار وسـرت معه حتَّى علا ذروة الطائف، فقال: هل ترى شيئاً؟ قلت: نعم أرى كثيب رمل عليه بيت شعر يتوقَّد البيت نوراً. فلمَّا أن رأيته طابت نفسـي، فقال لي: هناك الأمل والرجاء، ثمّ قال: سـر بنا يا أخ، فسار وسـرت بمسيره، إلى أن انحدر من الذروة وسار في أسفله، فقال: انزل فهاهنا يذلُّ كلُّ صعب، ويخضع كلّ جبّار، ثمّ قال: خل عن زمام الناقة، قلت: فعلى من أخلفها؟ فقال: حرم القائم عليه السلام، لا يدخله إلَّا مؤمن، ولا يخرج منه إلَّا مؤمن، فخلَّيت من زمام راحلتي، وسار وسرت معه إلى أن دنا من باب الخباء، فسبقني بالدخول وأمرني أن أقف حتَّى يخرج إليَّ. ثمّ قال لي: أُدخل هنَّأك السلامة، فدخلت فإذا أنا به جالس قد اتَّشح ببردة واتَّزر بأُخرى، وقد كسـر بردته على عاتقه، وهو كأُقحوانة أرجوان قد تكاثف عليها الندى، وأصابها ألم الهوى، وإذا هو كغصن بان أو قضيب ريحان، سمح سخي تقي نقي، ليس بالطويل الشامخ، ولا بالقصير اللازق، بل مربوع القامة، مدوِّر الهامة، صلت الجبين، أزج الحاجبين، أقنى الأنف، سهل الخدَّين، على خدِّه الأيمن خال كأنَّه فتات مسك على رضراضة عنبر. فلمَّا أن رأيته بدرته بالسلام، فردَّ عليَّ أحسن ما سلَّمت عليه، وشافهني وسألني عن أهل العراق، فقلت: سيِّدي قد ألبسوا جلباب الذلَّة، وهم بين القوم أذلّاء، فقال لي: (يا بن المازيار، لتملكونهم كما ملكوكم، وهم يومئذٍ أذلّاء)، فقلت: سيِّدي لقد بعد الوطن وطال المطلب، فقال: (يا بن المازيار، (أبي) أبو محمّد عهد إليَّ أن لا أُجاور قوماً غضب الله عليهم (ولعنهم) ولهم الخزي في الدنيا والآخرة ولهم عذاب أليم، وأمرني أن لا أسكن من الجبال إلَّا وعرها، ومن البلاد إلى عفرها، والله مولاكم أظهر التقيَّة فوكَّلها بي، فأنا في التقيَّة إلى يوم يُؤذَن لي فأخرج)، فقلت: يا سيِّدي، متى يكون هذا الأمر؟ فقال: (إذا حيل بينكم وبين سبيل الكعبة، واجتمع الشمس والقمر، واستدار بهما الكواكب والنجوم)، فقلت: متى يا بن رسول الله؟ فقال لي: (في سنة كذا وكذا تخرج دابَّة الأرض (من) بين الصفا والمروة، ومعه عصا موسى وخاتم سليمان، يسوق الناس إلى المحشـر)، قال: فأقمت عنده أيّاماً، وأذن لي بالخروج بعد أن استقصيت لنفسـي، وخرجت نحو منزلي، والله لقد سرت من مكّة إلى الكوفة ومعي غلام يخدمني فلم أرَ إلَّا خيراً، وصلّى الله على محمّد وآله وسلَّم تسليماً(١٠٤).
٢٠ - أحمد بن علي الرازي، عن أبي ذر أحمد بن أبي سورة - وهو محمّد بن الحسن بن عبد الله التميمي، وكان زيدياً -، قال: سمعت هذه الحكاية عن جماعة يروونها عن أبي رحمه الله، أنَّه خرج إلى الحير قال: فلمَّا صرت إلى الحير إذا شاب حسن الوجه يُصلّي، ثمّ إنَّه ودَّع وودَّعت وخرجنا، فجئنا إلى المشرعة، فقال لي: (يابا سورة أين تريد؟)، فقلت: الكوفة، فقال لي: (مع من؟)، قلت: مع الناس، قال لي: (لا تريد نحن جميعاً نمضـي)، قلت: ومن معنا؟ فقال: (ليس نريد معنا أحداً)، قال: فمشينا ليلتنا فإذا نحن على مقابر مسجد السهلة، فقال لي: (هو ذا منزلك، فإن شئت فامض)، ثمّ قال لي: (تمر إلى ابن الزراري عليّ بن يحيى فتقول له يعطيك المال الذي عنده)، فقلت له: لا يدفعه إليَّ، فقال لي: (قل له: بعلامة أنَّه كذا وكذا ديناراً وكذا وكذا درهماً، وهو في موضع كذا وكذا، وعليه كذا وكذا مغطّى)، فقلت له: ومن أنت؟ قال: (أنا محمّد بن الحسن)، قلت: فإن لم يقبل منّي وطولبت بالدلالة؟ فقال: (أنا وراك)، قال: فجئت إلى ابن الزراري، فقلت له فدفعني، فقلت له [العلامات التي قال لي، وقلت له]: قد قال لي: أنا وراك، فقال: ليس بعد هذا شـيء، وقال: لم يعلم بهذا إلَّا الله تعالى. ودفع إليَّ المال(١٠٥).
٢١ - أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن عبد الله بن محمّد بن خاقان الدهقان، عن أبي سليمان داد بن غسّان البحراني، قال: قرأت على أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي، قال: مولد محمّد بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي الرضا بن موسى بن جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين. وُلِدَ عليه السلام بسامراء سنة ستّ وخمسين ومائتين، أُمُّه صقيل، ويُكنّى أبا القاسم، بهذه الكنية أوصى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: (اسمه كاسمي وكنيته كنيتي)، لقبه المهدي، وهو الحجَّة، وهو المنتظر، وهو صاحب الزمان عليه السلام، قال إسماعيل بن عليّ: دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده، إذ قال لخادمه عقيد - وكان الخادم أسود نوبياً قد خدم من قبله عليّ بن محمّد وهو ربّى الحسن عليه السلام -، فقال [له]: (يا عقيد، اغل لي ماءً بمصطكي)، فأغلى له، ثمّ جاءت به صقيل الجارية أُمّ الخلف عليه السلام، فلمَّا صار القدح في يديه، وهمَّ بشـربه، فجعلت يده ترتعد حتَّى ضرب القدح ثنايا الحسن عليه السلام، فتركه من يده ، وقال لعقيد: (أُدخل البيت فإنَّك ترى صبيّاً ساجداً فأتني به). قال أبو سهل: قال عقيد: فدخلت أتحرّى، فإذا أنا بصبي ساجد رافع سبّابته نحو السماء، فسلَّمت عليه، فأوجز في صلاته، فقلت: إنَّ سيِّدي يأمرك بالخروج إليه، إذ جاءت أُمُّه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام. قال أبو سهل: فلمَّا مثل الصبي بين يديه سلَّم، وإذا هو درّي اللون، وفي شعر رأسه قطط، مفلج الأسنان، فلمَّا رآه الحسن عليه السلام بكى وقال: (يا سيِّد أهل بيته، اسقني الماء، فإنّي ذاهب إلى ربّي)، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ثمّ حرَّك شفتيه ثمّ سقاه، فلمَّا شربه قال: (هيِّئوني للصلاة)، فطرح في حجره منديل، فوَّضأه الصبي واحدة واحدة، ومسح على رأسه وقدميه. فقال له أبو محمّد عليه السلام: (أبشـر يا بنيَّ، فأنت صاحب الزمان، وأنت المهدي، وأنت حجَّة الله على أرضه، وأنت ولدي ووصيّي، وأنا ولدتك، وأنت محمّد بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام. ولدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنت خاتم [الأوصياء] الأئمَّة الطاهرين، وبشَّـر بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسمّاك وكنّاك، بذلك عهد إليَّ أبي عن آبائك الطاهرين، صلّى الله على أهل البيت ربّنا، إنَّه حميد مجيد)، ومات الحسن بن عليّ من وقته صلوات الله عليهم أجمعين(١٠٦).
٢٢ - عنه(١٠٧)، عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي، قال: حدَّثني الحسين بن محمّد بن عامر الأشعري القمّي، قال: حدَّثني يعقوب بن يوسف الضـرّاب الغسّاني - في منصـرفه من أصفهان -، قال: حججت في سنة إحدى وثمانين ومائتين، وكنت مع قوم مخالفين من أهل بلدنا. فلمَّا قدمنا مكّة تقدَّم بعضهم فاكترى لنا داراً في زقاق بين سوق الليل، وهي دار خديجة عليها السلام تُسمّى دار الرضا عليه السلام، وفيها عجوز سمراء، فسألتها - لـمَّا وقفت على أنَّها دار الرضا عليه السلام-: ما تكونين من أصحاب هذه الدار؟ ولِـمَ سُمّيت دار الرضا؟ فقالت: أنا من مواليهم، وهذه دار الرضا علي بن موسى عليهما السلام، أسكنيها الحسن بن علي عليهما السلام، فإنّي كنت من خدمه. فلمَّا سمعت ذلك منها آنست بها، وأسررت الأمر عن رفقائي المخالفين، فكنت إذا انصـرفت من الطواف بالليل أنام معهم في رواق في الدار، ونُغلِق الباب ونُلقي خلف الباب حجراً كبيراً كنّا ندير خلف الباب. فرأيت غير ليلة ضوء السـراج في الرواق الذي كنّا فيه شبيهاً بضوء المشعل، ورأيت الباب قد انفتح، ولا أرى أحداً فتحه من أهل الدار، ورأيت رجلاً ربعة أسمر إلى الصفرة ما هو قليل اللحم، في وجهه سجادة، عليه قميصان وإزار رقيق قد تقنَّع به، وفي رجله نعل طاق، فصعد إلى الغرفة في الدار حيث كانت العجوز تسكن، وكانت تقول لنا: إنَّ في الغرفة ابنة لا تدع أحداً يصعد إليها، فكنت أرى الضوء الذي رأيته يضـيء في الرواق على الدرجة عند صعود الرجل إلى الغرفة التي يصعدها، ثمّ أراه في الغرفة من غير أن أرى السراج بعينه، وكان الذين معي يرون مثل ما أرى، فتوهَّموا أن يكون هذا الرجل يختلف إلى ابنة العجوز، وأن يكون قد تمتَّع بها، فقالوا: هؤلاء العلوية يرون المتعة، وهذا حرام لا يحلُّ، فيما زعموا. وكنّا نراه يدخل ويخرج ونجيء إلى الباب وإذا الحجر على حاله الذي تركناه، وكنّا نُغلِق هذا الباب خوفاً على متاعنا، وكنّا لا نرى أحداً يفتحه ولا يغلقه، والرجل يدخل ويخرج والحجر خلف الباب إلى وقت نُنحّيه إذا خرجنا. فلمَّا رأيت هذه الأسباب ضـرب على قلبي، ووقعت في قلبي فتنة، فتلطَّفت العجوز، وأحببت أن أقف على خبر الرجل، فقلت لها: يا فلانة، إنّي أُحِبُّ أن أسألكِ وأُفاوضكِ من غير حضور من معي فلا أقدر عليه، فأنا أُحِبُّ إذا رأيتني في الدار وحدي أن تنزلي إليَّ لأسألكِ عن أمر، فقالت لي مسرعة: وأنا أُريد أن أسـرَّ إليك شيئاً فلم يتهيَّأ لي ذلك من أجل من معك، فقلت: ما أردت أن تقولي؟ فقالت: يقول لك - ولم تذكر أحداً -: (لا تخاشن أصحابك وشركاءك ولا تلاحهم، فإنَّهم أعداؤك ودارهم)، فقلت لها: من يقول؟ فقالت: أنا أقول ، فلم أجسـر لما دخل قلبي من الهيبة أن أُراجعها، فقلت: أيّ أصحابي تعنين؟ فظننت أنَّها تعني رفقائي الذين كانوا حجّاجاً معي، قالت: شركاؤك الذين في بلدك وفي الدار معك. وكان جرى بيني وبين الذين معي في الدار عنت في الدين، فسعوا بي حتَّى هربت واستترت بذلك السبب فوقفت على أنَّها عنت أُولئك، فقلت لها: ما تكونين أنت من الرضا؟ فقالت: كنت خادمة للحسن بن عليّ عليهما السلام، فلمَّا استيقنت ذلك قلت: لأسألنَّها عن الغائب عليه السلام، فقلت: بالله عليكِ رأيته بعينك؟ فقالت: يا أخي، لم أرَه بعيني، فإنّي خرجت وأُختي حبلى وبشَّـرني الحسن بن عليّ عليهما السلام بأنّي سوف أراه في آخر عمري، وقال لي: (تكونين له كما كنت لي)، وأنا اليوم منذ كذا بمصـر، وإنَّما قدمت الآن بكتابة ونفقة وجَّه بها إليَّ على يدي رجل من أهل خراسان لا يفصح بالعربية، وهي ثلاثون ديناراً، وأمرني أن أحجَّ سُنَّتي هذه، فخرجت رغبةً منّي في أن أراه، فوقع في قلبي أنَّ الرجل الذي كنت أراه يدخل ويخرج هو هو. فأخذت عشرة دراهم صحاحاً، فيها ستَّة رضوية من ضرب الرضا عليه السلام قد كنت خبَّأتها لألقيها في مقام إبراهيم عليه السلام، وكنت نذرت ونويت ذلك، فدفعتها إليها، وقلت في نفسـي أدفعها إلى قوم من ولد فاطمة عليها السلام أفضل ممَّا ألقيها في المقام وأعظم ثواباً، فقلت لها: ادفعي هذه الدراهم إلى من يستحقّها من ولد فاطمة عليها السلام، وكان في نيَّتي أنَّ الذي رأيته هو الرجل، وإنَّما تدفعها إليه، فأخذت الدراهم وصعدت وبقيت ساعة ثمّ نزلت، فقالت: يقول لك: (ليس لنا فيها حقّ، اجعلها في الموضع الذي نويت، ولكن هذه الرضوية خذ منّا بدلها وألقها في الموضع الذي نويت)، ففعلت، وقلت في نفسـي: الذي أُمرت به عن الرجل. ثمّ كان معي نسخة توقيع خرج إلى القاسم بن العلاء بآذربيجان، فقلت لها: تعرضين هذه النسخة على إنسان قد رأى توقيعات الغائب، فقالت: ناولني فإنّي أعرفها، فأريتها النسخة، وظننت أنَّ المرأة تُحسِن أن تقرأ، فقالت: لا يمكنني أن أقرأ في هذا المكان، فصعدت الغرفة ثمّ أنزلته، فقالت: صحيح، وفي التوقيع: (أُبشِّـركم ببشـرى ما بشَّـرت به (إيّاه))، وغيره. ثمّ قالت: يقول لك: (إذا صلَّيت على نبيِّك صلى الله عليه وآله وسلم كيف تُصلّي (عليه)؟)، فقلت: أقول: اللّهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد، وبارك على محمّد وآل محمّد، كأفضل ما صلَّيت وباركت وترحَّمت على إبراهيم وآل إبراهيم إنَّك حميد مجيد. فقال: (لا، إذا صلَّيت عليهم فصلِّ عليهم كلّهم وسمِّهم)، فقلت: نعم، فلمَّا كانت من الغد نزلت ومعها دفتر صغير، فقالت: يقول لك: (إذا صلَّيت على النبيِّ فصلِّ عليه وعلى أوصيائه على هذه النسخة)، فأخذتها وكنت أعمل بها، ورأيت عدَّة ليال قد نزل من الغرفة وضوء السـراج قائم. وكنت أفتح الباب وأخرج على أثر الضوء وأنا أراه - أعني الضوء - ولا أرى أحد حتَّى يدخل المسجد، وأرى جماعة من الرجال من بلدان شتّى يأتون باب هذه الدار، فبعضهم يدفعون إلى العجوز رقاعاً معهم، ورأيت العجوز قد دفعت إليهم كذلك الرقاع فيُكلِّمونها وتُكلِّمهم ولا أفهم عنهم، ورأيت منهم في منصـرفنا جماعة في طريقي إلى أن قدمت بغداد.
نسخة الدفتر الذي خرج: (بسم الله الرحمن الرحيم ، اللّهمّ صلِّ على محمّد سيِّد المرسلين، وخاتم النبيّين، وحجَّة ربِّ العالمين، المنتجب في الميثاق، المصطفى في الظلال، المطهَّر من كلِّ آفة، البريء من كلِّ عيب، المؤمَّل للنجاة، المرتجى للشفاعة، المفوَّض إليه دين الله. اللّهمّ شـرِّف بنيانه، وعظِّم برهانه، وأفلج حجَّته، وارفع درجته، وأضئ نوره، وبيِّض وجهه، وأعطه الفضل والفضيلة، والدرجة والوسيلة الرفيعة، وابعثه مقاماً محموداً، يغبطه به الأوَّلون والآخرون. وصلِّ على أمير المؤمنين، ووارث المرسلين، وقائد الغرِّ المحجَّلين، وسيِّد الوصيّين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على الحسن بن عليّ إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على الحسين بن عليّ إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على عليّ بن الحسين إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على محمّد بن عليّ إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على جعفر بن محمّد إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على موسى بن جعفر إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على عليّ بن موسى إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على محمّد بن عليّ إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على عليّ بن محمّد إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على الحسن بن عليّ إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. وصلِّ على الخلف الصالح الهادي المهدي إمام المؤمنين، ووارث المرسلين، وحجَّة ربِّ العالمين. اللّهمّ صلِّ على محمّد وأهل بيته الأئمَّة الهادين المهديين، العلماء الصادقين، الأبرار المتَّقين، دعائم دينك، وأركان توحيدك، وتراجمة وحيك، وحججك على خلقك، وخلفائك في أرضك، الذين اخترتهم لنفسك، واصطفيتهم على عبادك، وارتضيتهم لدينك، وخصصتهم بمعرفتك، وجلَّلتهم بكرامتك، وغشيتهم برحمتك، وربَّيتهم بنعمتك، وغذَّيتهم بحكمتك، وألبستهم نورك، ورفعتهم في ملكوتك، وحففتهم بملائكتك، وشرَّفتهم بنبيِّك. اللّهمّ صلِّ على محمّد وعليهم صلاةً كثيرةً دائمةً طيِّبةً، لا يحيط بها إلَّا أنت، ولا يسعها إلَّا علمك، ولا يحصيها أحد غيرك. اللّهمّ صلِّ على وليِّك المحيي سُنَّتك، القائم بأمرك، الداعي إليك، الدليل عليك، وحجَّتك على خلقك، وخليفتك في أرضك، وشاهدك على عبادك. اللّهمّ أعزّ نصـره، ومُدَّ في عمره، وزيِّن الأرض بطول بقائه. اللّهمّ اكفه بغي الحاسدين، وأعذه من شـرِّ الكائدين، وادحر عنه إرادة الظالمين. وتخلَّصه من أيدي الجبّارين. اللّهمّ أعطه في نفسه وذرّيته وشيعته ورعيَّته وخاصَّته وعامَّته وعدوِّه وجميع أهل الدنيا ما تقرُّ به عينه، وتسـرُّ به نفسه، وبلِّغه أفضل أمله في الدنيا والآخرة، إنَّك على كلِّ شـيء قدير. اللّهمّ جدِّد به ما محي من دينك، وأحي به ما بُدِّل من كتابك، وأظهر به ما غُيِّر من حكمك، حتَّى يعود دينك به وعلى يديه غضّاً جديداً خالصاً مخلصاً لا شكَّ فيه ولا شبهة معه، ولا باطل عنده، ولا بدعة لديه. اللّهمّ نوِّر بنوره كلَّ ظلمة، وهدَّ بركنه كلَّ بدعة، وأهدم بعزَّته كلَّ ضلالة، وأقصم به كلَّ جبّار، وأخمد بسيفه كلَّ نار، وأهلك بعدله كلَّ جبّار، وأجر حكمه على كلِّ حكم، وأذل لسلطانه كلَّ سلطان. اللّهمّ أذل كلَّ من ناواه، وأهلك كلَّ من عاداه، وامكر بمن كاده، واستأصل من جحد حقَّه، واستهان بأمره، وسعى في إطفاء نوره، وأراد إخماد ذكره. اللّهمّ صلِّ على محمّد المصطفى، وعليّ المرتضـى، وفاطمة الزهراء، (و)الحسن الرضا، والحسين المصطفى، وجميع الأوصياء، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، ومنار التقى، والعروة الوثقى، والحبل المتين، والصـراط المستقيم، وصلِّ على وليِّك وولاة عهده، والأئمَّة من ولده، ومُدَّ في أعمارهم، وأزد في آجالهم، وبلِّغهم أقصـى آمالهم [ديناً] دنياً وآخرةً، إنَّك على كلِّ شـيء قدير)(١٠٨).
٢٣ - أخبرني جماعة، عن أبي محمّد التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن الحسين بن علي القمّي، قال: حدَّثني محمّد بن علي بن بنان الطلحي الآبي، عن علي بن محمّد بن عبدة النيسابوري، قال: حدَّثني علي بن إبراهيم الرازي، قال: حدَّثني الشيخ الموثوق به بمدينة السلام، قال: تشاجر ابن أبي غانم القزويني وجماعة من الشيعة في الخلف، فذكر ابن أبي غانم أنَّ أبا محمّد عليه السلام مضـى ولا خلف له، ثمّ إنَّهم كتبوا في ذلك كتاباً وأنفذوه إلى الناحية، وأعلموه بما تشاجروا فيه، فورد جواب كتابهم بخطِّه عليه وعلى آبائه السلام: (بسم الله الرحمن الرحيم، عافانا الله وإيّاكم من الضلالة والفتن، ووهب لنا ولكم روح اليقين، وأجارنا وإيّاكم من سوء المنقلب. إنَّه أُنهي إليَّ ارتياب جماعة منكم في الدين، وما دخلهم من الشكِّ والحيرة في ولاة أُمورهم، فغمَّنا ذلك لكم لا لنا، وساءنا فيكم لا فينا، لأنَّ الله معنا ولا فاقة بنا إلى غيره، والحقّ معنا فلن يوحشنا من قعد عنّا، ونحن صنائع ربّنا، والخلق بعد صنائعنا. يا هؤلاء! ما لكم في الريب تتردَّدون، وفي الحيرة تنعكسون؟ أوَما سمعتم الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (يا أَيـُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء: ٥٩]؟ أوَما علمتم ما جاء ت به الآثار ممَّا يكون ويحدث في أئمَّتكم عن الماضين والباقين منهم عليهم السلام؟ أوَما رأيتم كيف جعل الله لكم معاقل تأوون إليها، وأعلاماً تهتدون بها من لدن آدم عليه السلام إلى أن ظهر الماضـي عليه السلام، كلَّما غاب علم بداً علم، وإذا أفل نجم طلع نجم؟ فلمَّا قبضه الله إليه ظننتم أنَّ الله تعالى أبطل دينه، وقطع السبب بينه وبين خلقه، كلَّا ما كان ذلك ولا يكون حتَّى تقوم الساعة، ويظهر أمر الله سبحانه وهم كارهون. وإنَّ الماضـي عليه السلام مضـى سعيداً فقيداً على منهاج آبائه عليهم السلام حذو النعل بالنعل، وفينا وصيَّته وعلمه، ومن هو خلفه ومن هو يسدُّ مسدَّه، لا ينازعنا موضعه إلَّا ظالم آثم، ولا يدَّعيه دوننا إلَّا جاحد كافر، ولولا أنَّ أمر الله تعالى لا يُغلَب، وسـرُّه لا يظهر ولا يُعلَن، لظهر لكم من حقّنا ما تبين منه عقولكم، ويزيل شكوككم، لكنَّه ما شاء الله كان، ولكلِّ أجل كتاب. فاتَّقوا الله وسلِّموا لنا، وردّوا الأمر إلينا، فعلينا الإصدار كما كان منّا الإيراد، ولا تحاولوا كشف ما غُطّي عنكم، ولا تميلوا عن اليمين وتعدلوا إلى الشمال، واجعلوا قصدكم إلينا بالمودَّة على السُّنَّة الواضحة، فقد نصحت لكم، والله شاهد عليَّ وعليكم، ولولا ما عندنا من محبَّة صلاحكم ورحمتكم، والإشفاق عليكم، لكنّا عن مخاطبتكم في شغل فيما قد امتحنّا به من منازعة الظالم العتل الضالّ المتتابع في غيِّه، المضادّ لربِّه، الداعي ما ليس له، الجاحد حقَّ من افترض الله طاعته، الظالم الغاصب. وفي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لي أُسوة حسنة، وسيردي الجاهل رداءة عمله، وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار، عصمنا الله وإيّاكم من المهالك والأسواء، والآفات والعاهات كلّها برحمته، فإنَّه وليُّ ذلك والقادر على ما يشاء، وكان لنا ولكم وليّاً وحافظاً، والسلام على جميع الأوصياء والأولياء والمؤمنين ورحمة الله وبركاته، وصلّى الله على محمّد وآله وسلَّم تسليماً)(١٠٩).
٢٤ - وبهذا الإسناد، عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي (رضي الله عنه)، عن سعد بن عبد الله الأشعري، قال: حدَّثنا الشيخ الصدوق أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري رحمه الله، أنَّه جاءه بعض أصحابنا يُعلِمه أنَّ جعفر بن علي كتب إليه كتاباً يُعرِّفه فيه نفسه، ويُعلِمه أنَّه القيّم بعد أخيه، وأنَّ عنده من علم الحلال والحرام ما يحتاج إليه، وغير ذلك من العلوم كلّها. قال أحمد بن إسحاق: فلمَّا قرأت الكتاب كتبت إلى صاحب الزمان عليه السلام، وصيَّرت كتاب جعفر في درجه، فخرج الجواب إليَّ في ذلك: (بسم الله الرحمن الرحيم، أتاني كتابك أبقاك الله، والكتاب الذي أنفذته درجه وأحاطت معرفتي بجميع ما تضمَّنه على اختلاف ألفاظه، وتكرّر الخطأ فيه، ولو تدبَّرته لوقفت على بعض ما وقفت عليه منه، والحمد لله ربِّ العالمين، حمداً لا شريك له على إحسانه إلينا، وفضله علينا، أبى الله (عزَّ وجلَّ) للحقِّ إلَّا إتماماً، وللباطل إلَّا زهوقاً، وهو شاهد عليَّ بما أذكره، وليٌّ عليكم بما أقوله، إذا اجتمعنا ليوم لا ريب فيه ويسألنا عمَّا نحن فيه مختلفون، إنَّه لم يجعل لصاحب الكتاب على المكتوب إليه ولا عليك ولا على أحد من الخلق جميعاً إمامة مفترضة، ولا طاعة ولا ذمَّة، وسأُبيِّن لكم جملة تكتفون بها إن شاء الله تعالى. يا هذا، يرحمك الله، إنَّ الله تعالى لم يخلق الخلق عبثاً، ولا أهملهم سدى، بل خلقهم بقدرته، وجعل لهم أسماعاً وأبصاراً وقلوباً وألباباً، ثمّ بعث إليهم النبيّين عليهم السلام مبشِّـرين ومنذرين، يأمرونهم بطاعته وينهونهم عن معصيته، ويعرفونهم ما جهلوه من أمر خالقهم ودينهم، وأنزل عليهم كتاباً، وبعث إليهم ملائكة يأتين بينهم وبين من بعثهم إليهم بالفضل الذي جعله لهم عليهم، وما آتاهم من الدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة، والآيات الغالبة. فمنهم من جعل النار عليه برداً وسلاماً واتَّخذه خليلاً، ومنهم من كلَّمه تكليماً وجعل عصاه ثعباناً مبيناً، ومنهم من أحيى الموتى بإذن الله، وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، ومنهم من علَّمه منطق الطير وأُوتي من كلِّ شـيء، ثمّ بعث محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم رحمةً للعالمين، وتمَّم به نعمته، وختم به أنبياءه، وأرسله إلى الناس كافَّة، وأظهر من صدقه ما أظهر، وبيَّن من آياته وعلاماته ما بيَّن. ثمّ قبضه صلى الله عليه وآله وسلم حميداً فقيداً سعيداً، وجعل الأمر [من] بعده إلى أخيه وابن عمِّه ووصيِّه ووارثه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ثمّ إلى الأوصياء من ولده واحداً واحداً، أحيى بهم دينه، وأتمَّ بهم نوره، وجعل بينهم وبين إخوانهم وبني عمهم والأدنين فالأدنين من ذوي أرحامهم فرقاناً بيِّناً يُعرَف به الحجَّة من المحجوج، والإمام من المأموم. بأن عصمهم من الذنوب، وبرَّأهم من العيوب، وطهَّرهم من الدنس، ونزَّههم من اللبس، وجعلهم خزّان علمه، ومستودع حكمته، وموضع سـرِّه، وأيَّدهم بالدلائل، ولولا ذلك لكان الناس على سواء، ولادَّعى أمر الله (عزَّ وجلَّ) كلُّ أحد، ولما عُرِفَ الحقُّ من الباطل، ولا العالم من الجاهل. وقد ادَّعى هذا المبطل المفتري على الله الكذب بما ادَّعاه، فلا أدري بأيَّة حالة هي له رجاء أن يتمَّ دعواه، أبفقه في دين الله، فوَالله ما يعرف حلالاً من حرام، ولا يُفرِّق بين خطأ وصواب، أم بعلم فما يعلم حقَّاً من باطل، ولا محكماً من متشابه، ولا يعرف حدَّ الصلاة ووقتها، أم بورع فالله شهيد على تركه الصلاة الفرض أربعين يوماً، يزعم ذلك لطلب الشعوذة، ولعلَّ خبره قد تأدّى إليكم، وهاتيك ظروف مسكره منصوبة، وآثار عصيانه لله (عزَّ وجلَّ) مشهورة قائمة، أم بآية فليأتِ بها، أم بحجَّة فليقمها، أو بدلالة فليذكرها. قال الله (عزَّ وجلَّ) في كتابه: (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ * وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ) [الأحقاف: ١ - ٦]، فالتمس تولّى الله توفيقك من هذا الظالم ما ذكرت لك، وامتحنه وسله عن آية من كتاب الله يُفسِّـرها، أو صلاة فريضة يُبيِّن حدودها وما يجب فيها، لتعلم حاله ومقداره، ويظهر لك عواره ونقصانه، والله حسيبه. حفظ الله الحقَّ على أهله، وأقرَّه في مستقرِّه، وقد أبى الله (عزَّ وجلَّ) أن تكون الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عليهما السلام، وإذا أذن الله لنا في القول ظهر الحقُّ، واضمحلَّ الباطل، وانحسـر عنكم، وإلى الله أرغب في الكفاية، وجميل الصنع والولاية، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلّى الله على محمّد وآل محمّد)(١١٠).
٢٥ - أخبرني جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن الحسين بن علي، عن أبي الحسن البلخي، عن أحمد بن مابندار الإسكافي، عن العلاء النداري، عن الحسن بن شمون، قال: قرأت هذه الرسالة على علي بن مهزيار، عن أبي جعفر الثاني بخطِّه: (بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي أحسن الله جزاك، وأسكنك جنَّته، ومنعك من الخزي في الدنيا والآخرة، وحشـرك الله معنا. يا علي، قد بلوتك وخبرتك في النصيحة والطاعة والخدمة، والتوقير والقيام بما يجب عليك، فلو قلت: إنّي لم أرَ مثلك لرجوت أن أكون صادقاً، فجزاك الله جنّات الفردوس نزلاً، فما خفي عليَّ مقامك ولا خدمتك في الحرِّ والبرد، في الليل والنهار، فأسأل الله إذا جمع الخلائق للقيامة أن يحبوك برحمة تُغتَبط بها، إنَّه سميع الدعاء)(١١١).
٢٦ - روى أحمد بن علي الرازي، عن علي بن مخلد الإيادي، قال: حدَّثني أبو جعفر العمري (رضي الله عنه) قال: حجَّ أبو طاهر بن بلال، فنظر إلى عليّ بن جعفر، وهو ينفق النفقات العظيمة، فلمَّا انصرف كتب بذلك إلى أبي محمّد عليه السلام فوقَّع في رقعته: (قد كنّا أمرنا له بمائة ألف دينار، ثمّ أمرنا له بمثلها، فأبى قبوله إبقاءً علينا، ما للناس والدخول في أمرنا فيما لم نُدخِلهم فيه؟)، قال: ودخل على أبي الحسن العسكري عليه السلام فأمر له بثلاثين ألف دينار(١١٢).
٢٧ - وأخبرني جماعة، عن التلعكبري، عن أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن علي، عن عثمان بن أحمد السمّاك، عن إبراهيم بن عبد الله الهاشمي، عن يحيى بن أبي طالب، عن علي بن عاصم، عن عطاء بن السائب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا تقوم الساعة حتَّى يخرج نحو من ستّين كذّاباً كلّهم يقول: أنا نبيٌّ)(١١٣).
٢٨ - أحمد بن علي الرازي، عن المقانعي، عن بكار بن أحمد، عن حسن بن حسين، عن عبد الله بن بكير، عن عبد الملك بن إسماعيل الأسدي، عن أبيه، قال: حدَّثني سعيد بن جبير، قال: السنة التي يقوم فيها المهدي تمطر أربعاً وعشرين مطرة يُرى أثرها وبركتها(١١٤).
٢٩ - أحمد بن علي الرازي، عن محمّد بن إسحاق المقرئ، عن المقانعي، عن بكار، عن إبراهيم بن محمّد، عن جعفر بن سعيد الأسدي، عن أبيه، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (عام أو سنة الفتح ينشقُّ الفرات حتَّى يدخل أزقَّة الكوفة)(١١٥).
الهوامش:
(١) الفهرست: ٣٠.
(٢) رجال الطوسي: ٤٥٥.
(٣) رجال النجاشي: ٩٧.
(٤) الأنساب للسمعاني: ٣٩٧.
(٥) أُنظر: معجم قبائل العرب القديمة والحديثة لعمر كحالة ١: ٥٣.
(٦) أُنظر: نهاية الإرب في معرفة أنساب العرب للقلقشندي: ٩٤ و٩٥.
(٧) تاج العروس ٢: ٣٦٥ و٣٦٦/ مادَّة (خضب).
(٨) بحار الأنوار ٤٢: ١٩٦.
(٩) المزار لابن المشهدي: ٥٠٠.
(١٠) أُنظر: الأنساب: ١٥٦.
(١١) الأنساب: ٢٣.
(١٢) أُنظر: معجم البلدان: ١١٧.
(١٣) أُنظر: الفهرست للطوسي: ٢٦.
(١٤) أُنظر: رجال النجاشي: ٣٤٧.
(١٥) أُنظر: رجال الطوسي: ٥١٦.
(١٦) تاريخ فقه أهل البيت عليهم السلام للآصفي/ المطبوع في رياض المسائل ١: ٢٧ - ٢٩.
(١٧) نظر: تاريخ ابن الأثير ٧: ١٤.
(١٨) تاريخ ابن خلدون ٤: ٤٢٠.
(١٩) أُنظر: المنتظم في تاريخ الملوك والأُمم لابن الجوزي ١٤: ٤٢ و٤٣.
(٢٠) أُنظر: مجلَّة فقه أهل البيت عليهم السلام/ العدد المزدوج ٥ و٦: ٢٩٩ و٣٠٠/ مقال الصدوق الثاني/ القسام الثاني لصفاء الخزرجي.
(٢١) أُنظر: مقدّمة حسن الخرسان على من لا يحضره الفقيه: (د).
(٢٢) الفهرست: ١٥٩.
(٢٣) رجال النجاشي: ٣٨٥.
(٢٤) رجال النجاشي: ٣٧٣.
(٢٥) الغيبة: ٤١٥ - ٤١٧.
(٢٦) من لا يحضره الفقيه ٢: ١١٨.
(٢٧) رجال النجاشي: ٥٩، جاء فيه عن أحمد بن علي بن نوح السيرافي: (أخبرنا الشيخ الفاضل أبو عبد الله الحسين بن علي بن سفيان البزوفري فيما كتب إليَّ في شعبان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة...).
(٢٨) معجم البلدان ١: ٤١٢.
(٢٩) رجال النجاشي: ٦٨.
(٣٠) رجال الطوسي: ٤٦٦.
(٣١) الفهرست: ٢٦.
(٣٢) رجال الطوسي: ٤٤٤.
(٣٣) أُنظر: رجال النجاشي: ٩٢.
(٣٤) أُنظر: الفهرست للطوسي: ٣٠؛ رجال النجاشي: ٣٦٧؛ معالم العلماء: ٥٤.
(٣٥) مستدرك الحاكم ٤: ٣٣٣ عن ابن مسعود؛ وكذا سنن البيهقي ٦: ٢٠٨.
(٣٦) المهذَّب البارع لابن فهد الحلّي ٤: ٣٢٧ و٣٢٩؛ ورواه الشيخ في المبسوط مرسلاً بلفظ (روي عن النبيِّ...) ٤: ٦٧.
(٣٧) وسائل الشيعة ٢٦: ٦٩/ باب وجوب جبر الوالي الناس على الفرائض الصحيحة/ ح ٣٢٥٠٤.
(٣٨) أُنظر: رجال النجاشي: ١٦٦.
(٣٩) رجال النجاشي: ١٩٧.
(٤٠) شرائع الإسلام ٤: ٨٦٤.
(٤١)
(٤٢) معجم البلدان ١: ٥٣٤.
(٤٣) المنتظم في تاريخ الأُمم والملوك ١٦: ١٦.
(٤٤) الفهرست: ٣٠.
(٤٥) رجال النجاشي: ٩٧.
(٤٦) أُنظر: خلاصة الأقوال للعلَّامة الحلّي: ٣٢٢.
(٤٧) نهاية الدراية لحسن الصدر: ٤٣٣.
(٤٨) رجال ابن الغضائري: ٢٨/ مقدّمة المحقِّق.
(٤٩) بحار الأنوار ٢٥: ٣٤٧.
(٥٠) الفوائد الرجالية: ٣٨ و٣٩.
(٥١) كلّيات في علم الرجال: ٩٨.
(٥٢) أُنظر: نهاية الدراية: ٤٣٧.
(٥٣) أُنظر: خلاصة الأقوال: ٦٧، قال في ترجمته: (ولم ينصّ علماؤنا عليه بتعديل، ولم يروَ فيه جرح، فالأقوى قبول روايته مع سلامتها من المعارض).
(٥٤) نهاية الدراية: ١٥٧.
(٥٥) الفوائد الرجالية: ٤٨.
(٥٦) طرائف المقال للبروجردي: ٢٦٢.
(٥٧) الفوائد الرجالية: ٤٧.
(٥٨) أشهد أنَّ عليّاً وليّ الله في الأذان بين الشرعية والابتداع للشهرستاني: ٨٨.
(٥٩) الفوائد الرجالية: ٤٩.
(٦٠) قاموس الرجال ٩: ٣٣٩/ الرقم ٦٩٦٠.
(٦١) الفوائد الرجالية: ٤٣.
(٦٢) عدَّة الرجال ١: ١٦٤.
(٦٣) منتهى المقال: ٢٨٦.
(٦٤) أُنظر: الغيبة للطوسي: ٢٤٦ - ٢٤٨/ ح ٢١٦.
(٦٥) أعيان الشيعة ٣: ٤٢.
(٦٦) بناءً على أسبقية الفهرست على رجال النجاشي.
(٦٧) أُنظر: رجال النجاشي: ٩٧.
(٦٨) منتهى المقال: ٢٨٦.
(٦٩) أُنظر: معالم العلماء: ٥٤.
(٧٠) أُنظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة ١٤: ٢٠٢.
(٧١) أُنظر: أعيان الشيعة ٢: ٤٢.
(٧٢) أُنظر: معجم المؤلِّفين ٢: ٧.
(٧٣) من القرائن على ذلك: روايته عن أحمد بن إدريس الأشعري القمّي المتوفّى سنة (٣٠٦هـ)، وكذلك روايته عن محمّد بن جعفر الأسدي وكيل الناحية المقدَّسة المتوفّى (٣١٢هـ).
(٧٤) الكنى والألقاب ٢: ٣٩٤.
(٧٥) كذا في المطبوع، ولعلَّ الصحيح (بها).
(٧٦) الفهرست: ٣٠.
(٧٧) رجال الطوسي: ٤٧٠.
(٧٨) رجال النجاشي: ٧٠.
(٧٩) رجال النجاشي: ٣٨٤ و٣٨٥.
(٨٠) الفهرست: ١٣٦.
(٨١) الكنى والألقاب ٢: ١٢٢.
(٨٢) رجال النجاشي: ٤٣٩.
(٨٣) رجال الطوسي: ٥١٦.
(٨٤) الغيبة: ١٤٧ و١٤٨/ ح ١٠٩.
(٨٥) الغيبة: ١٨٧ و١٨٨/ ح ١٤٨.
(٨٦) الغيبة: ١٨٨ و١٨٩/ ح ١٥٠.
(٨٧) الغيبة: ١٨٩/ ح ١٥١.
(٨٨) الغيبة: ١٨٩ و١٩٠/ ح ١٥٢.
(٨٩) الغيبة: ١٩٠ و١٩١/ ح ١٥٣.
(٩٠) الغيبة: ١٩١/ ح ١٥٤.
(٩١) الغيبة: ٢٠٦/ ح ١٧٤.
(٩٢) الغيبة: ٢١٨/ ح ١٨٠.
(٩٣) الغيبة: ٢٢٩/ ح ١٩٥.
(٩٤) أقول: قوله: (بمثل الحديث الأوَّل) إشارة إلى ما رواه قبل حديث الرازي بحديثين بتسلسل (٢٠٤): (وأخبرني ابن أبي جيد، عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن الصفّار محمّد بن الحسن القمّي، عن أبي عبد الله المطهَّري، عن حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا، قالت: بعث إليَّ أبو محمّد عليه السلام سنة خمس وخمسين ومائتين في النصف من شعبان...).
(٩٥) الغيبة: ١٩١/ ح ٢٠٦.
(٩٦) الغيبة: ٢٣٩، لم يُرقِّم المحقِّق هذا الحديث الذي جاء بعد الحديث السابق بلا فصل، لاعتبارهما حديثاً واحداً كما أشار الشيخ بقوله: (بمثل ذلك).
(٩٧) الغيبة: ٢٤٠ - ٢٤٢/ ح ٢٠٨.
(٩٨) الغيبة: ٢٤٦ - ٢٤٨/ ح ٢١٦.
(٩٩) الغيبة: ٢٥٣ و٢٥٤/ ح ٢٢٣.
(١٠٠) الغيبة: ٢٥٣ - ٢٥٧/ ح ٢٢٤.
(١٠١) الغيبة: ٢٥٨ و٢٥٩/ ح ٢٢٦.
(١٠٢) جاء هذا الحديث في غيبة الطوسي بعد الحديث السابق مباشرةٌ وبلا فصل، ويظهر أنَّ الضمير في (عنه) يعود على (أحمد بن علي الرازي).
(١٠٣) الغيبة: ٢٥٩ - ٢٦٢/ ح ٢٢٧.
(١٠٤) الغيبة: ٢٦٣ - ٢٦٧/ ح ٢٢٨.
(١٠٥) الغيبة: ٢٦٩/ ح ٢٣٤.
(١٠٦) الغيبة: ٢٧١ - ٢٧٣/ ح ٢٣٧.
(١٠٧) أي عن (أحمد بن علي الرازي) كما يظهر من الحديث السابق عليه.
(١٠٨) الغيبة: ٢٧٣ - ٢٨١/ ح ٢٣٨.
(١٠٩) الغيبة: ٢٨٥ - ٢٨٧/ ح ٢٤٥.
(١١٠) الغيبة: ٢٨٧ - ٢٩٠/ ح ٢٤٦.
(١١١) الغيبة: ٣٤٩/ ح ٣٠٦.
(١١٢) الغيبة: ٣٥٠/ ح ٣٠٨.
(١١٣) الغيبة: ٤٣٤/ ح ٤٢٤.
(١١٤) الغيبة: ٤٤٣/ ح ٤٣٥.
(١١٥) الغيبة: ٤٥١/ ح ٤٥٦.