تمهيدنا: العين الناظرة
رئيس التحرير
تتحدّث جملة من الآيات الكريمة عن رقابة الله تعالى والنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه الأُمّة من قبيل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾ (النساء: ١)، وقوله تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: ١٤٣).
ويجدر بنا قبل الحديث عن الذي يراقبنا، أن نبحث عن مسألة أخرى في غاية الأهمية حاصلها:
هل نحن بحاجة إلى من يراقبنا؟
قد يقول بعضنا: إنني أملك شهادة عالية أو سلطةً ونفوذاً أو جاهاً، وما إلى ذلك من الأمور التي تغنيني عن أن أقع تحت سلطة الرقابة.
فالعلم مثلاً قد يصوِّر لصاحبه - أي العالِم - أنك لا تحتاج لمن يراقبك!
وحُسنُ الخلق قد يصوِّر للشخص أنه لا يحتاج إلى من يراقبه ليضبط إيقاعات تصرّفاته!
وهكذا قد يرد هذا التساؤل إلى أذهانها.
في الحقيقة لا يمكن أن نتصور شخصاً مهما كانت مكانته يستغني عن وجود رقيبٍ يضبط له مفاهيمه وتصرُّفاته.
وقد يطالب البعض بالدليل على هذه المقولة.
وإنما هو الوجدان، فإننا نشعر بوجداننا أننا مهما امتلكنا من علم أو سلطة أو جاه، فإننا بحاجة إلى الرقابة.
وما سيرة العقلاء بيننا في جعل جميع إدارات مفاصل الدولة تحت الرقابة إلّا لاستشعارٍ بضرورة ذلك.
ولكن ألا تتفقون معي أنه لا يوجد شيءٌ لم يقع عليه الإنكار حتّى وجود الله (عزّ وجل) بل حتّى البديهيات التي نؤمن بها كقضية العدل وحسنه والظلم وقبحه، فإنك إذا تتبَّعت تاريخ هذه المسألة الفكري ستجد أن هناك من أنكرها.
إذا اتفقنا على ضرورة الرقابة، فتعالوا معي لنلقي نظرة على أصنافها المختلفة، ونلاحظ حاجتنا وإلى أي رقيبٍ نثق أن نركن وبرقابته نأمن؟
إن للرقابة أصنافاً مختلفة:
١- إلهية أشارت إليها الآية الأولى.
٢- نبوية أشارت إليها الآية الثانية.
٣- وتنبثق من هذه الرقابة رقابة ولوية للإمام (عليه السلام) بمقتضى ولايته على الأُمّة وهدايته لها.
وقد دلّت نصوص عديدة على ذلك، منها هذا المقطع: «السلام عليك يا عين الله في خلقه».
وهو جزء من زيارة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) يوم الجمعة.
٤- وهناك رقابة ذاتية ينبغي أن يكون عليها الإنسان تشير إليها جملة من الآيات أيضاً كقوله تعالى:﴿بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ (القيامة: ١٤).
بل إنّ القرآن الكريم يحدِّثنا عن شهادة بعض جوارحنا على أنفسنا ولولا كون هذه الجوارح تدرك أفعالنا وتسجِّلها علينا لما كان من وجهٍ للحديث عن شهادتها علينا، إذ يقول تعالى:﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ﴾ (يس: ٦٥).
فالآية ظاهرة في أنّ الجارحة تراقب تصرُّفات الإنسان وتضبط حركاته وسكناته بل وتضبط وجهة الحركة ومقصدها.
والذي يتابع هذا المضمار يجد أنّ علم الاجتماع والتنمية بدءا بتناول هذه المسألة بشكل جدي أكثر واستُفيد منها في الواقع الاجتماعي فضلاً عن الفردي بشكل أكبر ونتج عن ذلك أفكار رائعة في التخلُّص من مشاكل ذاتية أو اجتماعية كان يصعب إلى حدٍّ كبير السيطرة عليها.
فضبْطُ الإنسان لإيقاعاته يدخل في هذا المضمار، سواءً كان هذا الضبط ناشئاً من أعماقه من دون أن يكون هناك مؤثِّر خارجي أو كان بواعز المؤثر الخارجي، لا فرق من هذه الجهة.
ونستعين هنا لأجل ذلك بجملة من الآداب التي نتحلّى بها في قضايا دينية أو اجتماعية لتقريب فكرتنا في ضرورة استشعار رقابة الإمام المهدي (عجّل الله فرجه) في زماننا وجعلها مؤشراً يضبط إيقاع أفكارنا ومعتقداتنا وسلوكياتنا.
تنص جملة من الآداب الدينية في كثير من العبادات الشرعية على أن هناك تصرُّفات وهيئات ينبغي أن يتحلّى بها الشخص ليحصِّل الرتبة السامية من عمله الذي يقوم به.
مثلاً في الصلاة بعد تجاوز مرحلة أداء الواجبات والشرائط التي بها يكون امتثال التكليف من قِبل العبد.
تأتي مرحلة الآداب التي تسمو بهذا العمل إلى أعلى رتبه، أو تنخفض به إلى أدنى رتبه، وهو ما يعبَّر عنها في اللسان الفقهي بمستحبات الصلاة ومكروهاتها، فهذان الحدّان - وبينهما مسافة شاسعة من المراتب - يقومان بتغيير الحقيقة الصلاتية من كونها فعلاً يُلفُّ بخرقةٍ - كما روي ذلك عن الإمام الصادق (عليه السلام): «إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها إلى العشر، وإن منها لما تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها»(١) بل في بعض الأخبار أن الصلاة تدعو عليه وتقول له: «ضيَّعتني ضيَّعك الله»(٢) - إلى كونها فعلاً يوجب أن يكون العبد يسمع بسمع الله ويبصر ببصره وينظر بنظره(٣)، وإنه لَفارقٌ كبير.
وليس هذا الفارق الكبير إلّا بسبب آداب هي إلى حدٍّ ما تشكِّل مظاهر خارجية للصلاة.
ومن هذه الحالة ننطلق إلى الآداب الاجتماعية التي انعقدت عليها عادات المجتمعات وتقاليدهم فصارت أعرافاً ملزمة يُستهجَن بل يعاقب من يتجاوزها، وهي في ذات الوقت مظاهر خارجية على مستوى الحديث أو الملبس وأمثالهما.
إن المجتمع يهتمُّ ولا أقل يراقب:
١- المظهر الخارجي للأشخاص.
٢- الكلام والألفاظ المعبِّرة عن المعاني.
فهما يشكلان عندنا - بل حتّى عند الشريعة - قيمةً عاليةً، ولعلَّ ذلك لأجل أن للمظهر والألفاظ قابلية الكشف عن الحقائق الداخلية.
ولا يخفى على من لامس علم البيان والبديع أنّ الألفاظ لها آداب، ولحُسن الحديث وأدبه مما شغل أهل هذا الفن طويلاً وجعلهم يضبطون أوضاعه وينظّمونه في إطار قواعد كلّما طبّقناها أكثر اقتربنا من الهدف.
وكذلك فيما يرتبط بالمظهر وخصوصاً في زماننا هذا نجد أن هناك مؤسسات تدرِّسُ هذا الفن وأنّ الشخصيات الكبيرة اجتماعياً تخضع لنظام تدريسي وتدريبي وأنّ هناك أموالاً طائلة تُصرف في سبيل ضبط المظهر.
وهنا سؤال: لماذا نقصد المظاهر والألفاظ ونتابعها؟
في الحقيقة إنّنا نجهل الأشخاص المحيطين بنا، ولأجل التعرُّف عليهم أكثر نتشبَّثُ بالمظاهر والألفاظ لتكشف لنا بعض حقيقة هؤلاء.
ومن زاوية أخرى فإن الانجذاب للمظهر الحسن والكلام الجميل يُعدُّ من الأمور الوجدانية، لاحظ معي قوله تعالى في هذه الآية: ﴿وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ﴾ (البقرة: ٢٤٧)، فإنّ الله سبحانه وتعالى يتحدَّث في مقام التفضُّل على عبده أنه زاده بسطةً في جسمه، بل إنّ في قوله تعالى: ﴿فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾ (القصص: ٧٩) إشعاراً لما للزينة من أثر في النفس والانجذاب والميل إلى صاحبها والتأثُّر به، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): «تكلَّموا تُعرفوا، فإنَّ المرء مخبوءٌ تحت لسانه».
فالمظهر غالباً كما الألفاظ كاشفٌ عن الأشخاص.
ومن هنا يحسنُ بنا إدارة الكلمات كما المظهر ونعرف متى نتكلَّم، وكيف نتكلَّم، وبماذا نتكلَّم، لأنّه بضبط ذلك نضبط مقدار تأثيرنا في الناس.
والسؤال الآخر: كيف لي أن أملكَ هذه الأشياء؟
في الحقيقة أنّ رقابة المجتمع كلّما كانت صارمة ومنضبطة كانت قادرة على إيجاد هذه الأشياء في الناس المتفاعلين معها، فلو أنّ شخصاً طُلِبَ منه أن يتكلم في مجتمعٍ معيَّن، تراه يقوم باستعدادات وتهيئة مقدِّمات وتدريبات كثيرة لكي ينجح في هذه المهمة، لماذا؟ لأنّنا نراقبه.
وليكن! وما تأثير رقابتنا عليه؟!
في الحقيقة أنّ الرقابة التي يتمتع بها المجتمع تشكِّل أهمية كبيرة، لأن هذا الشخص لو فشل في هذه المهمة فإنه سيخسر وضعاً اجتماعياً ونفسياً وربما مالياً.
لو حاولنا نقل هذه الحقيقة التي نمارسها لمرّات عديدة في اليوم الواحد إلى علاقتنا بالإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، فما الذي سنرى؟
نحن نعرف جيّداً أن الإمام (عجّل الله فرجه) هو المرآة التي تعكس وجودنا بجميع حيثيّاته إلى الله سبحانه وتعالى، لأنه هو العين التي تراقبنا، فعلى هذا الأساس إذا أردنا أن نعرف صحّة فعلٍ من أفعالنا أو بطلانه أو رفض عملٍ أو قبوله فإننا لابد أن نستكشف ذلك من خلال علاقتنا بالإمام (عجّل الله فرجه)، ومتى ضُبطت هذه العلاقة حقيقةً وشكلاً ولفظاً فإنها ستنتج أطيب النتائج المرجوّة، وعلى سبيل المثال فإن الإمام الرضا (عليه السلام) عندما أراد أن يتحدَّث عن أثر الإمام في الأعمال - وبطبيعة الحال أن الإمام عندما يتحدث وانطلاقاً من وظيفته فإنه يتحدَّث عمّا يؤثر على ضبط العلاقة بين الإنسان وربِّه في الجانب العبادي - فنراه يقول (عليه السلام): «بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج»(٤)، فإذا سألْنا: لماذا به تمام الأعمال؟ لماذا تمام الصلاة بالمظهر الذي نلقى به الله تعالى عندما نكون في الصلاة، وبالألفاظ التي نأتي بها عندما نؤدّيها؟ لماذا يكون الإمام (عليه السلام) هو تمام الصلاة والزكاة والصيام؟
فإننا نجد الجواب على لسان الإمام الصادق (عليه السلام) حيث يقول: «نحن شهداء الله على خلقه»(٥).
فلابد لنا عند القيام بأيِّ عملٍ أن نستشعر رقابة الإمام (عجّل الله فرجه) علينا وعينه الناظرة إلينا على مستوى روحنا وضبط العلاقة معه وعلى مستوى مظهرنا وما يؤثر في تلك العلاقة، وعلى مستوى ألفاظنا وكيف تكون مقوِّية لتلك العلاقة وضابطةً ومؤثرةً فيها.
والله تعالى يقول: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: ١٠٥)، فالإمام (عجّل الله فرجه) يرى كلَّ ما نقوم به من أعمال ويراقب حقيقة العمل ومظهره، وينبغي بعد استحضار هذه الحقيقة في نفوسنا أن نجعل أعمالنا من أجمل ما يمكن أن يراه الإمام (عجّل الله فرجه) حتّى نصير مصداقاً لقول الإمام الرضا (عليه السلام) عندما سأله ابن الجهم: جعلتُ فداك، أشتهي أن أعلم كيف أنا عندك، قال (عليه السلام): «أُنظر كيف أنا عندك»(٦).
الهوامش:
(١) بحار الأنوار - العلامة المجلسي: ج٧٩، ص٣٠٥.
(٢) الأمالي - الشيخ الصدوق: ص٣٢٨.
(٣) الكافي - الشيخ الكليني: ج٢، ص٣٥٢.
(٤) كتاب الغيبة - محمد بن إبراهيم النعماني: ج١، ص٢٢٤.
(٥) الكافي - الشيخ الكليني: ج١، ص١٩٠.
(٦) عيون الأخبار: ج٢، ص٥٠؛ أمالي الصدوق: ص١٤٥.