رؤيا الظهور
الشيخ سفاح صكبان الجابري
تمهيد:
قال تعالى في كتابه الكريم: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَراهُ قَرِيباً) (المعارج: ٥ - ٧).
ورد في تأويل هذا المعنى أنَّ المرئي هو ظهور الإمام المهدي عليه السلام، جاء في زيارة آل يس: «اللّهمّ أرني الطلعة الرشيدة...، وعجِّل لنا ظهوره، إنَّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً...»(١)، وجاء في آخر فقرات دعاء العهد: «إنَّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً».
فيُقسِّم الإمام عليه السلام تبعاً للآية المنتظرين إلى قسمين أساسيين: فمنهم من يرى قرب التطبيق الكامل للشريعة الخاتمة بظهور الإمام المهدي عليه السلام، ومنهم من يرى بعده. وهذا هو الفهم الأساسي والمتبادر من النصِّ.
وهل يشمل هذا التقسيم - كما سوف نرى - المؤمنين بظهور الإمام عليه السلام أم هو أوسع من ذلك فيشمل ربَّما من ليس لهم دين أصلاً؟
أقسام البحث:
البحث قسمان: الأوَّل: في أنواع الرؤى، والثاني في أصناف المنتظرين، مع ملحق بالمقوّمات التي أبقت ولادة الأمل.
القسم الأوَّل: في أنواع الرؤى
فما هي الرؤية المقصودة في العبارة الواردة في «يرونه»؟
في الحقيقة لدينا عدَّة أنواع من الرؤى يمكن أن يصلح أحدها أو بعضها كجواب لهذا السؤال:
النوع الأوَّل: الرؤيا الحسّية.
النوع الثاني: رؤيا المنامات.
النوع الثالث: رؤيا مبنيَّة على الأماني.
النوع الرابع: رؤيا مبنيَّة على التحليل العقلي لأحداث التاريخ وفلسفته.
النوع الخامس: رؤيا قلبية.
النوع السادس: رؤيا مبنيَّة على الوعد الإلهي بتحقيق العدل الكامل بظهور الإمام المهدي عليه السلام.
أجوبة هذه الأنواع:
جواب النوع الأوَّل:
ليس من المعقول أن يرى المنتظرون للإمام المهدي عليه السلام بأعينهم ذلك اليوم باعتباره ليس أمراً مادّياً، إلَّا أن يتحقَّق فعلاً ويرون آثاره بظهور الإمام عليه السلام نفسه. وهنا تكون المسالة تحصيلاً للحاصل، إذ ليس لهم ميزة عن غيرهم، والآية والرواية تُقسِّم هؤلاء المنتظرين إلى قسمين، فالصالحون يرونه قريباً، والطالحون يرونه بعيداً. إلَّا إذا قلنا بالاطِّلاع الحسّي لبعض الصالحين على مقدّمات الظهور، ويردُّ هذا القول التقابل الموجود في العبارة، حيث جاء فيها (يَرَوْنَهُ بَعِيداً)، فماذا رأى السيّئون حتَّى حكموا أنَّ موعد الظهور بعيد؟ فمن خلال وحدة السياق يظهر أنَّ هناك تماثلاً من جهة الرؤى بين الفريقين، فليس من المعقول والعدل والمصلحة أن يطَّلع أعداء الظهور على بعض تلك المقدّمات، وهم يعملون بكلِّ جدٍّ على تأخيره، بل وزواله.
جواب النوع الثاني(٢):
وفيه عدَّة ردود:
الردُّ الأوَّل: لو كانت الرؤيا طريقاً وعلامة لمعرفة زمن الظهور لذكرها أئمَّتنا عليهم السلام:
إنَّ الأئمَّة عليهم السلام لم يذكروا لنا ولا في رواية واحدة أنَّ أحد طرق معرفة موعد الظهور هو الرؤيا. وبما أنَّ وظيفتهم الأساسية هي هداية البشرية، وأنَّهم بيَّنوا في عشرات الروايات ووضعوا عدَّة قواعد وعلامات تدلُّ على قرب الظهور، فمن السهل عليهم جدَّاً بل وطبقاً لتكليفهم الإلهي أن يقولوا: من أراد أن يعرف موعد ظهور إمامه وحجَّته فنحن نُخبِره في النوم. وبما أنَّهم لم يقولوا لنا ذلك إذن الرؤيا ليست طريقاً في تحديد قرب الظهور أو بعده.
الردُّ الثاني: كذبوا، فإنَّ دين الله أعزُّ من أن يُرى في النوم:
عن محمّد بن يعقوب...، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال: «ما تروي هذه الناصبة؟»، فقلت: جُعلت فداك، في ماذا؟ فقال: «في أذانهم...»، فقلت: إنَّهم يقولون: إنَّ أُبي بن كعب رآه في النوم، فقال: «كذبوا، فإنَّ دين الله أعزُّ من أن يُرى في النوم»(٣).
فجواب الإمام الصادق عليه السلام هو أنَّ من يرى دين الله سبحانه بالنوم فهو (كاذب)، ويرى دين الله أي يُؤسِّس في دين الله تعالى ويبني دين الله على الرؤيا..، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (النجم: ٤ و٥).
النتيجة: من يدَّعي أنَّ أحد مستحبّات الدين منشأها رؤيا فهو كاذب حسب وصف الصادق عليه السلام، فما هو وصف من يدَّعي معرفة وتحديد ما يقف تحقيق الدين ورسالات السماء على ظهوره عن طريق الرؤيا؟
الردُّ الثالث:
وفيه عدَّة مقدّمات:
الأُولى: إنَّ من الثابت في تأريخ الأديان اختلاف معاجز وحجج إثبات أنبيائها، ومنشأ الاختلاف كما بيَّنه كثير من العلماء هو لاختلاف مستويات المجتمعات المعاصرة لأُولئك الأنبياء على الصعيد الثقافي أو الإيماني أو الفكري، وما يزامن تلك المستويات من عادات وطقوس ومستوى الوعي الذي يتمتَّعون به، وقوَّة إراداتهم لتحقيق ما يعونه من أهداف أو يؤمنون به من مبادئ. معجزة موسى عليه السلام مثلاً هي الأفعى وهي تتناسب مع السحر في زمانه، وكذلك غيره من الأنبياء كعيسى ويوسف عليهما السلام.
الثانية: إنَّ المجتمع الإنساني في تدرّج مستمرّ في كماله، وخصوصاً في نقطتين أساسيتين: وعيه وإدراكه، وحرّية إرادته. وفي كلا الاتِّجاهين العمق والسعة، أي تعميق هذا المعنى في الإنسان كفرد وسعة شموله لعدد أكبر من الأفراد. إذ للإنسان القابلية على الوعي والإدراك يمكن أن تتكشَّف عبر التدرّج التاريخي للإنسان. وقوَّة إرادة يمكن أن تكبر وتتضخَّم وفق ظروف معيَّنة لتتناسب وهدفه الذي يسعى له.
الثالثة: الله تعالى يهدي الإنسان وفق عدَّة طرق، منها أن يُوجِّه إليه خطاباً ظاهراً محدَّداً عبر أنبيائه، أو أن يُحفِّزه ويحثّه على التدبّر والتفكّر في آياته علَّه يهتدي إلى دلائل قدرته.
الرابعة: وهي أهم المقدّمات، ويمكن أن تُسمّى مرحلة انفتاح الغيب على الواقع وبالعكس.
وبيانها: أنَّ معجزة النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم هي القرآن، وهو عبارة عن نصٍّ إلهي، والنصُّ يعتمد في أحد أركانه على مستوى الوعي والفهم لقارئه. بالإضافة للركن الأساسي الثاني، وهو تجسيد مفاهيم الخطاب الإلهي في الواقع العملي للإنسان.
ولو أعدنا النظر في طريقة فهم الإنسان لمراد الله تعالى نجد أنَّها تنقسم إلى مرحلتين أساسيتين:
المرحلة الأُولى: ما قبل نبوَّة نبيِّ الإسلام محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم:
وتتمُّ عن طريق بعث الأنبياء والرسل كلَّما احتاج الإنسان إلى تجديد منظومته التربوية. وما هذا التدرّج في طريقة الخطاب الإلهي عبر تلك المراحل إلَّا إثباتاً للسُّنَّة التاريخية والاجتماعية المارَّة الذكر القاضية برقيِّ الإنسان وتكامله عبر الزمن.
المرحلة الثانية: مرحلة النبيِّ الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلم وما بعدها:
إذا لاحظنا المفردات المتعلّقة بمسألة الإدراك والوعي والفهم الإنساني، والتي تكشف عن طبيعة الخطاب الإلهي في مرحلة القرآن وما بعدها، وما تحاكيه من قوى الإنسان المناسبة لها بالنسبة للفرد المعاصر لنزول القرآن ومن يأتي بعده، لوجدنا أنَّ المفردات المتعلّقة بالعلم والتعلّم والتفكّر والتدبّر والتعقّل والتفقه جاءت أكثر من أربعمائة مرَّة تقريباً، وهي ألفاظ تؤكّد على جنبة الفهم والإدراك البشري المعاصر واللاحق لزمن الخطاب القرآني، بالإضافة إلى ألفاظ كثيرة قريبة من هذا المعنى قد انطوى عليها النصُّ القرآني. وإنَّ التركيز المكثَّف على هذه المفاهيم في كتاب الله إنَّما يكشف عن مرحلة جديدة من الوعي انتقلت إليها البشرية، وأصبحت لها القدرة على التعامل مع النصِّ، ولها القدرة على أن تحاكي المعاني المكنونة فيها - بعد ضمِّ بيانات أهل البيت عليهم السلام التي حفظت ذلك التراث المُنزَل تأويلاً -.
والفرق الجوهري بين هذه المرحلة والمرحلة السابقة، هو أنَّه في المرحلة السابقة تبعث السماء نبيَّاً كلَّما احتاجت البشرية لذلك، وفي هذه المرحلة وكلَّما احتاج الإنسان إلى معنى جديد يساير به خطّ الكمال العامّ للإنسانية في خطّها الطويل لا بدَّ من اعتماد الفهم والإدراك عبر التدبّر والتفكّر للوصول للعلم واليقين بمضمون الخطاب الإلهي، سواء كان مباشرةً عبر كتابه أو عبر من يُمثِّلونه، والنصُّ بدوره ينطوي على كلِّ ما يحتاجه الإنسان من معاني ومفاهيم ترفد حاجاته المتطوّرة.
إذن المرجع هناك الوحي وهنا التدبّر في النصِّ والخطاب الإلهي، وتجسيد الخطاب عملياً يواكب المرحلتين، وهو مطلوب في كلِّ الأزمنة والأمكنة ولا يختصُّ بمرحلة دون أُخرى.
وبعد تقدّم التاريخ إلى هذه النقطة الزمنية المعاصرة والتي تأتي بعدها، يُفتَرض وحسب قاعدة تطوّر البشرية وتكاملها، أنَّه قد زاد مستوى وعيها وإدراكها حتَّى عن زمن من عاصروا الرسالة باستثناء قادة الخلق وعِدل القرآن من آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم والمخلِصين من أتباعهم، فضلاً عن زمن ما قبل رسالة النبيِّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم، فما بالك بعدَّة آلاف من السنين قبلها؟ فلا بدَّ من رقيِّ جانب الفهم والإدراك البشري المباشر، ليلائم مرحلة ما قبل الظهور المبارك، لكي يناسب في حجمه، المفاهيم العليا التي سيكشف عنها الإمام المهدي عليه السلام بعيد ظهوره المبارك.
نعم إنَّنا لا ننكر الرؤيا أصلاً، فهي قد وردت في كتاب الله تعالى، وكذلك في بعض الروايات الشريفة، لكن نفس هذه الروايات التي تُعتَبر حجَّة علينا قد حدَّدت دور الرؤيا من منظومتنا الإيمانية، فيمكن أن تحصل الرؤى للإنسان في بداية سفره الإيماني، فقد ورد عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام حين اشتكى له أحد أصحابه انقطاع الرؤيا، قال: «لا تغتم فإنَّ المؤمن إذا رسخ في الإيمان رُفِعَ عنه الرؤيا»(٤)، ودورها في المنظومة التشريعية، كما مرَّ عن الصادق عليه السلام.
النتيجة:
لا بدَّ أن يكون مستوى الوعي والإدراك المعرفي بالله والدين، وكذلك مستوى إرادة الإنسان لتحقيق ذلك، تتناسب والزمن المعاصر لتلك الدعوة. ويُفتَرض حسب القواعد السابقة أنَّ البشرية قد ارتقت بوعيها وإرادتها في علاقة متبادلة بين الغيب والإنسان فهماً وانفتاحاً وانسجاماً مع ذلك الغيب، من خلال تربية المصلحين السابقين على النبيِّ الخاتم صلّى الله عليه وآله وسلم، ثمّ جاء هو صلّى الله عليه وآله وسلم متمِّماً لمكارم أخلاقهم، وتجسيد أهل بيته لتلك الأخلاق، فنتج: الرقيّ في طريقة التعامل مع الغيب في أساليب قد رسمتها السماء مسبقاً من خلال إثارة قابليات مودَعة في الإنسان تتناسب والهدف الأسمى لخلقه، مع الحفاظ على تواصل الإنسان مع الغيب على طول خطّ رقيّه.
أمَّا ما ورد من نصوص حول الرؤيا فهي تتعلَّق بإرشاد الإنسان في بداية طريقه الإيماني نحو ما هو ثابت أصلاً في أدلَّة لا تقبل التاويل.
جواب النوع الثالث: الرؤية المبنيَّة على الأماني:
يتَّصف قسم من الناس بحالة من الضعف والتردّد في تطوير مهارات تكامل إراداتهم، إلى درجة أنَّهم يحبسون تلك الأهداف العليا والراقية للإنسان في خبايا أنفسهم، ولا تتعدّى مرحلة الأُمنية، ولم يُتعِب نفسه في تهيئة المقدّمات الموصلة لتلك الأهداف.
فمن يُؤسِّس لها منهج يمكن أن يؤدّي بالنهاية لبلوغها، فهذه من الأماني المحترمة لدى العقلاء، وتنطبق تلك الأماني عادةً على الأُمور المادّية قريبة المنال، أو المتعلّقة بشخص الإنسان، أمَّا إن كانت تتعلَّق بمجموعة من البشر، أو بالبشرية جمعاء من جهة، كنصرة المصلح العالمي، ومن جهة أُخرى تتعلَّق بتربية الإنسان نفسه تربية عالية يضبط من خلالها كلّ حركاته وسكناته، وهو لم يقم بأيِّ مقدّمة توصل لتلك النتيجة سواءً على الصعيد الاجتماعي أو التربوي، فهذه تُعَدُّ من الأماني المستحيلة.
جواب النوع الرابع: رؤيا مبنيَّة على التحليل العقلي لأحداث التاريخ وفلسفته:
إنَّ المتتبّع لأحداث التاريخ والأُمم السالفة، يعلم أنَّ لها ثلاث مراحل أساسية، وهي: نشأتها، وذروة سيادتها وتسلّطها، وانهيارها. وإنَّ لنشوئها أسباباً موضوعيةً، وكذلك لبقائها وزوالها. وقد انطبق هذا القانون على كلِّ الحضارات السالفة الصالحة منها والسيّئة، وهناك تشابه كبير بين تلك الأسباب والعوامل، يتكرَّر بين الفينة والأُخرى، وعند توفّر هذه العوامل فإنَّ القانون سيُطبَّق عليها شاء الحاكمون عليها أم أبوا.
وقد حثَّ القرآن الكريم كثيراً على التدبّر في أحوال الأُمم السالفة، وأخذ العبرة والموعظة منها وممَّا جرى عليها من خير وشرّ، وكيف آلت أُمورهم بعدما ظنّوا أنَّ ملكهم لا يزول، قال عزَّ من قائل:
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر: ٤٣)، وقال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) (آل عمران: ١٣٧).
وكان جُلُّ من تسيَّدوا العالم وشيَّدوا الدول يجهلون الأسباب الحقيقية لبقاء دولهم، حيث ربط أغلبهم تلك الأسباب بالقوَّة والقهر لشعوبهم، سواء قوَّة السلاح أم قوَّة الاقتصاد، أو الإغراء المفرط، أو استعملوا سياسة ضمان تأييد النخبة. هذا بالنسبة للحكومات الوضعية.
والحكم الحقيقي هو ما يرتبط بتقنين وتوجيه جميع كيان الإنسان وفي أدقِّ تفاصيل وجوده الروحية منها والعقلية والعاطفية والسلوكية والاجتماعية، وعلى جميع أفراد بني البشر، توجيهه لينسجم مع القوانين الكونية التي خُلِقَت من أجله، والسير بهما إلى حيث الهدف الذي خُلِقَ من أجله.
فإن حصل وارتقت البشرية بوعيها وإنسانيتها إلى درجة ترفض فيها بصوتٍ عالٍ الظلم السائد في أغلب المجتمعات، فقد مهَّدت بذلك أهمّ أسباب حكمها الحقيقي الراسخ، المبني على بناء الإنسان بناءً حقيقياً، ويتغلغل لديها تقبّل مستويات تربوية عليا وعميقة لم تصل إليها الفلسفات وأصناف الحكم السابقة.
ومن لديه القدرة على فهم هذا القانون وقراءة الواقع البشري، ومستوى كماله العامّ، وبعد اطِّلاعه على العشرات من تجارب الحضارات السابقة في نشاتها وازدهارها وأُفولها يدرك جيِّداً إلى أيَّة مرحلة وصلة البشرية من الوعي والإدراك والإرادة، في تقبّل ورفض تجارب مماثلة.
نعم تُمثِّل هذه الخطوة جزءاً من الصورة الكلّية للكمال الحقيقي المطلوب والمناسب لقيادة الإمام عليه السلام، والتي لا يعلم إطارها العامّ إلَّا الله تعالى ومن نصَّبه خليفةً وقائداً للبشرية، والتي ربَّما يوجد هناك أسباب ومؤثِّرات مسرعة للكمال العام لأفراد الإنسان، ومن أمثلتها التغيير الكوني قبيل وأثناء الظهور المبارك، ومع وجود تلك الأسباب المؤثِّرة بالإضافة إلى التجارب السابقة تكتمل الصورة لدى هؤلاء والذين لا يُشكِّلون إلَّا القلَّة بين أبناء البشر. ومن خلال ما تكوَّنت لدى هؤلاء من صورة، واعتمادهم على هذا الجزء وحده، يرون يوم الخلاص وإنقاذ البشرية قريب. وذلك بسبب عاملين أساسيين:
الأوَّل: يأسهم من حلول المدارس الوضعية لمشاكل البشرية، وأنَّ كلَّ ما يُطرَح هو تكرار لتلك التجارب السابقة الفاشلة بشكل أو بآخر.
الثاني: أملهم الفطري وحبّهم للعدل، يؤمنون بوجود حلول غير تلك التي أثبتت فشلها.
النوع الخامس: الرؤيا القلبية:
يعتمد هذا النوع من الرؤيا على نقاء القلب وصفائه وتزكيته، فهناك من المؤمنين ممَّن يتَّصفون بهذه الصفات، وطبعاً كلّ صفة من تلك الصفات هي متفاوتة في درجاتها، وكلُّ واحد منهم حسب معرفته وشدَّة ارتباطه بالله تعالى، وقائده الفعلي الحجَّة ابن الحسن عليه السلام، وسنذكر في أصناف المنتظرين إن شاء الله بالتفصيل أقسام المؤمنين وعلاقتهم برؤيا الظهور.
النوع السادس: رؤيا مبنيَّة على الوعد الإلهي بتحقيق العدل الكامل بظهور الإمام المهدي عليه السلام:
(ليس المهدي تجسيداً لعقيدة إسلاميَّة ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتَّجهت إليه البشرية بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لإلهام فطري، أدرك الناس من خلاله - على الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلى الغيب - أنَّ للإنسانية يوماً موعوداً على الأرض، تُحقِّق فيه رسالات السماء بمغزاها الكبير، وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المكدودة للإنسان على مرِّ التاريخ استقرارها وطمأنينتها، بعد عناء طويل)(٥).
وأمَّا على الصعيد الإسلامي خصوصاً فقد تبلورت فكرة وعقيدة المهدي عليه السلام من خلال ما تواتر عن النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم في كثير من الرويات لدى كلا الفريقين، إلَّا أنَّ الفرق في الاعتقاد بالمهدي عليه السلام كما هو واضح أنَّ عامَّة المسلمين يعتقدون بولادته مستقبلاً، وأتباع أهل البيت عليهم السلام تبعاً لأئمَّتهم فهم يعتقدون أنَّه قد وُلِدَ فعلاً، وأنَّه ثاني عشر الأئمَّة الأطهار، وأنَّه غائب عن الأنظار إلى أن يأذن الله تعالى له بالظهور.
وقد اشترك الفريقان في أنَّ المهدي عليه السلام هو من ذرّية الحسين عليه السلام، وأنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
وسنذكر عدَّة روايات من كلا الفريقين للتذكرة:
ما ورد عن أهل البيت عليهم السلام في المهدي المنتظر عليه السلام:
حديث قدسي: «... أوحى الله (عزَّ وجلَّ) إليَّ: يا محمّد، اخترتك من خلقي واخترت لك وصيَّاً من بعدك، وجعلته منك بمنزلة هارون من موسى إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدك، وألقيت محبَّةً في قلبك، وجعلته أباً لولديك...، وآخر رجل منهم يُصلّي خلفه عيسى بن مريم، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، أُنجي به من الهلكة، وأهدي به من الضلالة، وأُبرئ به الأعمى، وأُشفي به المريض...»(٦).
وعن جابر الجعفي، قال: قلت للباقر عليه السلام: يا بن رسول الله، إنَّ قوماً يقولون: إنَّ الله تعالى جعل الإمامة في عقب الحسن عليه السلام، قال: «يا جابر، إنَّ الأئمَّة هم الذين نصَّ عليهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم بإمامتهم، وهم اثنا عشر، وقال: لمَّا أُسري بي إلى السماء وجدت أسماءهم مكتوبة على ساق العرش بالنور، اثني عشر اسماً، أوَّلهم علي وسبطاه وعلي ومحمّد وجعفر وموسى وعلي ومحمّد وعلي والحسن ومحمّد القائم الحجَّة المهدي»(٧).
وفي قوله تعالى: (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) (البروج: ١)، عن الأصبغ بن نباتة، قال: سمعت ابن عبّاس رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم : «أنا السماء، وأمَّا البروج فالأئمَّة من بيتي وعترتي، أوَّلهم علي وآخرهم المهدي، وهم اثنا عشر»(٨).
ما جاء عن الإمام المهدي عليه السلام من مصادر أهل السُّنَّة:
- عن أبي سعيد الخدري، عن النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم أنَّه قال: «تُملأ الأرض ظلماً وجوراً، فيقوم رجل من عترتي فيملأُها قسطاً وعدلاً، يملك سبعاً أو تسعاً»(٩).
- عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «لا تنقضي الساعة حتَّى يملك الأرض رجل من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت قبله جوراً، ويملك سبع سنين»(١٠).
- عن علي بن الحسين، عن أبيه عليهما السلام أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام: «المهدي من وُلْدِكِ»(١١).
- عن حذيفة، قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم فذكَّرنا بما هو كائن، ثمّ قال: «لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لطوَّل الله تعالى ذلك اليوم حتَّى يبعث رجلاً من وُلدي، اسمه اسمي»، فقام سلمان فقال: يا رسول الله، من أيِّ وُلدك هو؟ قال: «من وَلَدي هذا»، وضرب بيده على الحسين عليه السلام(١٢).
- عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «يخرج المهدي من قرية يقال لها: كرعة»(١٣).
عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «المهدي رجل من ولدي، وجهه كالكوكب الدرّي»(١٤).
عن حذيفة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: «المهدي رجل من ولدي، لونه لون عربي، وجسمه جسم إسرائيلي، على خدّه الأيمن خال، كأنَّه كوكب درّي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، يرضى في خلافته أهل الأرض وأهل السماء والطير في الجوّ»(١٥).
فمن يؤمن بوعد الله (عزَّ وجلَّ) ويُصدِّق كلام رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلم، ويتَّبع الأئمَّة الأطهار صلوات الله عليهم، فمن الحتمي أنَّ قلبه يتحرَّق شوقاً للقاء قائده المهدي عليه السلام والسير في ركابه، والتقرّب إلى الله تعالى في طاعته وخدمته، وحين يطرق سمعه: «توقَّعوا الفرج صباحاً ومساءً»، و«إنَّ أفضل العبادة انتظار الفرج».
خلاصة الأنواع السابقة:
وبعد إثبات بطلان المعاني الثلاثة الأُولى واستبعادها من احتمال مدخليتها في فهم معنى رؤيا قرب الظهور وبعده، تبقى لدينا المعاني الثلاثة الأُخرى، والتي قرَّبنا صحَّتها، إمَّا بصورة منفردة أو متداخلة.
القسم الثاني: في أصناف المنتظرين:
ما نبحث عنه هو: علاقة الإنسان بقرب وبعد ظهور الإمام المهدي عليه السلام ورؤيته لهذا الموعد المهمّ في تاريخ البشرية، ونحاول أن نُحلِّل الدافع الأساس والبوصلة التي تُحرِّك الإنسان تجاه تعجيل أو إبطاء ظهوره المبارك، إذ ربَّما يخدع الإنسان نفسه أحياناً بتقديم وتأخير بعض الأهداف من غير شعور، والمطلوب منّا كمكلَّفين بطاعة إمام زماننا هو ترتيب أولويات ولائنا تجاهه عليه السلام، وأن لا نخدع أنفسنا بتصوّرات ربَّما تخذلنا ساعة نحتاج إليها، وكلّنا حسب الفرض نتمنّى قرب ذلك اليوم المنشود.
ويحاول هذا القسم أن يجيب عن هذا السؤال المهمّ والجوهري، حيث صنَّفنا المنتظرين لليوم الموعود ومعرفة ماهية المعيار الحقيقي للانتظار ونسبة صدق من يتطلَّعون لسيادة العدل الكامل في ربوع الأرض إلى عدَّة أصناف. وستتمُّ الإجابة إن شاء الله عن طريق نقاط يتمُّ فيها ذكر كلّ صنف من المنتظرين وبيان المعيار الذي يحكمه، مع ذكر الصنف الذي يقابله إن كانت هناك حاجة لذلك.
أصناف المنتظرين ومعايير انتظارهم:
الصنف الأوَّل: ما إذا كان هدفهم من خروج المهدي عليه السلام ليُحقِّق حاجتهم لتطبيق العدل الذي حُرِموا منه.
ويميل لهذا الهدف الطبقات الفقيرة في العالم، وما أكثرهم في ظلِّ أمواج الظلم الهائلة التي تجتاح العالم اليوم جراء ظلم الظالمين وجور الجائرين، وقد حدثت فجوات هائلة بين طبقات المجتمع البشري فمنها ما هو متنعّم ومرفَّه بكلِّ وسائل الترفيه، ومنها المعدم الذي يحلم برغيف يسدُّ به رمق عياله، وليس ذلك وحسب فما يحزُّ في نفوس هؤلاء الفقراء هو البذخ الزائد والمفرط في استعمال وسائل العيش سواءً الأساسية منها أو الثانوية من قِبَل المستأثرين بالثروات، وما يزيد الطين بلَّة هو تآزر قوى الشرّ العالمي من دول صناعية مهيمنة على مقدرات العالم على استنفاذ الموارد البشرية الأساسية، ممَّا يُهدِّد اليوم العالم بأجمعه، وباتت تحت ظلِّ هذا الوضع المزري مليارات من البشر تحلم بأبسط مقوّمات الحياة كالسكن والطعام والماء الصالح والأمن والتعليم... الخ.
وبعد هذا التفاوت بين طبقات المجتمع البشري واحتكار هذه الموارد من قِبَل أنظمة وأحزاب محدِّدة، وبعد فشل هذه الجهات في توفير العيش الكريم لهذه الطبقات والشعوب مع مسكها لزمام الأُمور وإخفاق وعودهم الكثيرة سواء على مستوى التنظير أو التطبيق، فإنَّ البشرية تتطلَّع إلى خطاب جديد ونظام جديد وسلوك جديد يزيح عنهم تراكمات الماضي وويلاته، وغطرسة ونفاق وعنجهية الأنظمة والأحزاب السابقة.
فإن حدث واكتشف هؤلاء المضلَّلون - بفتح اللام - أنَّهم كانوا يُخدَعون من قِبَل قياداتهم وفي جميع المستويات وفي أدقِّ تفاصيل توجّهاتهم الفكرية، وسيثبت لهم أنَّ كلَّ الأنظمة السابقة كانت قائمة على النفعية الاقتصادية والهيمنة لأشخاص وجهات محدَّدة، وكلُّ ما كان يُرفَع كشعار أو اتِّجاه ديني يأتي في حسابات هؤلاء النفعيين بالدرجة الثانية أو الثالثة، أو أنَّ تلك الشعارات والمفاهيم كانت تُرفَع من أجل استدراج وتضليل العامَّة من الطبقات الشعبية وفي كلِّ الأُمم.
سيكتشفون حينها أن لا قيمة حقيقة لما كانوا يؤمنون به كمنهج فكري أو معتقد ديني بعد أن يعلموا أنَّ كلَّ ذلك كان أداة طوَّرها ونظَّر لها أشخاص استخدموها وسيلة للسيطرة عليهم، عندها سيهون عليهم نبذ هذا التوجّه والتخلّي عن هذا الدين المصطنع والذهاب بكلِّ قوَّة نحو نظام ومنهج يُحقِّق لهم أهدافهم المنشودة وعدلهم المفقود.
وذلك (أنَّ التخطيط الإلهي قائم على اكتساح التمحيص الدقيق للأفراد والمبادئ، وبذلك ينكشف بشكل حسّي مبرهن ومدعم بالتجارب الكثيرة والمريرة، عن فشل كلِّ دعوة تدَّعي لنفسها حلّ مشاكل العالم وتذليل مصاعبه. حتَّى ما إذا انكشفت وبان زيفها ونقاط الضعف فيها وأيست البشرية من أن تضع حلّها لنفسها...، انبثق الأمل في أنفسها من جديد إلى حلٍّ جديد ونظام جديد ينقذها من وهدتها ويخرجها من ورطتها. وهذا الأمل إحساس نفسي مجمل لا زال في طريق التربية في نفوس البشر، كما هو المحسوس الآن بالوجدان ولا زالت الحوادث وما ينكشف من مساوئ الأنظمة والفلسفات الوضعية تؤيّده وتدعمه)(١٦).
ويشير إلى هذا المعنى ما ورد عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال: «دولتنا آخر الدول ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلَّا ملكوا قبلنا لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله تعالى: (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: ١٢٨]»(١٧).
ولا شكَّ أنَّ هذه الجموع البشرية متطلّعة لهذا اليوم المنشود سواءً أسمته ظهور الإمام أم غير ذلك، المهمّ سيادة العدل والمساواة في ربوع الأرض، وبهذا المعنى هم يرون ومن منشأ حاجتهم يوم انتظار الفرج قريباً.
الخلاصة: أنَّ المنشأ الأساس لهذا الصنف ممَّن يتطلَّعون لقرب تطبيق العدل الكامل، هو بسبب فقرهم وحاجتهم لذلك العدل.
ويقابل هذا الصنف فئة كبيرة من الناس الأكثر تاثيراً هم أُولئك الذين ينتمون إلى مؤسَّسات كبرى هيمنت من خلال مكر وخبث هؤلاء على مصير شعوب كثيرة من العالم، ولا زالت تبتزُّ الدول الفقيرة باستعمالها كثير من الأساليب، ومن أمثلة تلك الشركات:
شركات تصنيع الأسلحة، فلا تجري أرباح لتلك الشركات حتَّى تجري دماء شعوب العالم، فهم يُخطِّطون من خلال عملائهم لزرع الفتن، وتحت شتّى الاسباب، كالدينية والعرقية والجغرافية، فإذا نظرنا إلى أغلب المعارك الجارية اليوم نجد أنَّ لأصحاب تلك الشركات والدول التي تحتضنها والأيادي التي تُشغِّلها يداً في اشتعال فتيلها.
وأمَّا الشركات الأُخرى المصنِّعة، كشركات النفط والاتِّصال والتكنلوجيا والبرمجيات وشركات السيّارات والتبوغ والأدوية وغيرها من القطاعات، فهي لا يُشكِّل نسبة مالكيها شئياً بالنسبة لعدد سكّان العالم، ومع ذلك هي تستولي على أغلب رأس المال العالمي، وتتحكَّم بمصير مليارات البشر، ويُتمِّم هذه الهيمنة المالية والاقتصادية هيمنة المصارف الكبرى في العالم، وسيطرتها على البورصات العالمية. حتَّى أصبحت هي السلطة الحاكمة الفعلية على حيات الناس، فأبسط نظرة على الواقع المعاصر وطريقة هيمنة هذه المؤسَّسات والدول على الشعوب ذات الطبقة المتوسّطة والفقيرة نجد أنَّ هناك فارقاً شاسعاً بين ما يتنعَّم به هؤلاء وبين تلك الشعوب، ومن ينطلق من هذا المبدأ ويستعمل هذه الأساليب فإنَّه لا يرى للعدل أيَّة قيمة فضلاً عن التطلّع إليه، فهم بكلِّ المقاييس يعملون وليس فقط يرون بكلِّ ما أُوتو من قوَّة على إبعاد وعرقلة تحقيق أدنى مقوّمات العدل فضلاً عن تحقيق العدل الكامل في أرجاء المعمورة.
الصنف الثاني: ما إذا كان هدفهم من خروج المهدي عليه السلام هو رغبة بتحقيق العدل والمساواة في العالم حتَّى تنعم البشرية بظلِّ هذه المبادئ التي سيأتي بها المهدي عليه السلام.
والدافع الأساس لأبناء هذا الصنف هو ميلهم الأخلاقي لتطبيق وإقامة العدل ونبذ ومحاربة الظلم، وهم حتَّى وإن كانوا من غير الفقراء أو المحتاجين إلَّا أنَّ ما يجري في العالم من ظلم وما يشاهدونه من ويلات دعاهم إلى رفضه ومجابهته سواء عبَّروا عن ذلك أم لم تسنح لهم الفرصة.
فكثير من شعوب العالم كأفراد لديها رقي انساني لا بأس به وقد مرّوا كمجتمعات بكثير من التجارب السابقة من حروب كالحرب العالمية الأُولى والثانية، وقد حدثت لديهم ردّات فعل إيجابية تجاه تلك الكوارث الأمنية والاجتماعية والسياسية، واستثمروا ردَّة الفعل هذه بشكل إيجابي جدَّاً على الأقلِّ على المستوى المدني، فقاموا بسنِّ قوانين دقيقة جدَّاً تُنظِّم حياة الإنسان وتستثمر طاقاته السلوكية والاجتماعية بما يتناسب مع ثقافاتهم وفلسفتهم للحياة.
إلَّا أنَّ تلك التشريعات والقوانين لم تُغَذِّ كثير من الطاقات الإنسانية الخفيَّة عليهم، ومنها الفطرة الإنسانية الطيّبة التي صنعها الله تعالى وصوَّرها، والتي لها قوانينها الدقيقة الخاصَّة والخفيَّة على جميع مشرّعي العالم مهما علت هممهم ولطفت أفكارهم، وهي القاعدة الأساسية لتربية الإنسان وتزكيته، ولا ينسجم أيُّ نظام تربوي أو قانوني إلَّا ما شرَّعه وقنَّنه خالق تلك الفطرة، ذلك القانون الذي حاول أولياء الطاغوت على طول خطِّ البشرية تشويهه وعرقلته، وهو ما ينسجم مع ما تتطلَّع تلك الجموع البشرية لتحقيقه، وهي عطشى لملئ هذا الفراغ التربوي والأخلاقي والروحي. وسوف يُبيِّن معالمه الاساسية ذلك المصلح العظيم حين يصدح معلناً ظهوره عليه السلام.
وأصبح الوعي الشعبي الإنساني الغربي متطوّراً من هذه الناحية، وأقرب شاهد على ذلك ما نراه اليوم من طريقة تعامل شعوب أُوربا الغربية مع اللاجئين وخروجهم بمظاهرات مطالبة حكوماتهم بالسماح لهم بالدخول لدولهم، وهذا ما عجز عنه كثير من البلدان التي تدَّعي ارتباطها بالإسلام ولديها قدرات اقتصادية هائلة لاستيعاب إخوانهم في الدين واللغة.
فبهذا الشعور بالوحدة الإنسانية وانتفاض الإنسان لمساعدة أخيه الإنسان بغضِّ النظر عن الدين واللغة والعرق، بدأت تتكشَّف لهؤلاء شيئاً فشيئاً زيف ادِّعاء أنظمتهم، بل بدأوا يُدرِكون أنَّها جزء من المشكلة وهي ما تسبَّبت في وجود وانتشار هذا الظلم والقتل والتشريد في كثير من بقاع العالم وليس آخرها فلسطين، وما أحدثته بريطانيا من وجود هذا الجسم الفايروسي في جسد المسلمين، وما حدث في أفغانستان حين أنشأت أمريكا كيان طالبان بمساعدة السعودية لمجابهة المدِّ السوفيتي، وما يحدث في سوريا والعراق واليمن وليبيا، وغيرها.
واستطاعت تلك الحكومات أن تُضلِّل شعوبها بإعلام مركَّز جدَّاً ومدروس بحيث اقتنع إلى فترات قريبة ولا زال في كثير من مفاصله أنَّ كلَّ ما يحصل في تلك البلدان والشعوب هو أمر مستحقّ وهم أصلاً لا يستحقون الحياة كونهم شعوباً متوحِّشة ومتخلِّفة ولا يعون مصالحهم الشخصية، وأنَّ مهمَّة جيوشهم هي إنقاذهم من أنفسهم، وأيّ اعتداء على تلك الجيوش هو تخريب لهذه المهمَّة النبيلة بنظرهم.
ومع اتِّساع سبل الاتِّصال وسرعته بدأت شعوب الدول الغربية تعي بعض حقائق جيوشها ونوايا سياسييها، ومثال لذلك الوعي هو توقيع مائة ألف بريطاني اليوم(١٨) على عريضة تطالب فيها حكومة بريطانيا التي أوجدت إسرائيل باعتقال ومحاكمة رئيس إسرائيل.
فعموماً مشكلة كثير من شعوب العالم وخصوصاً المهيمنة على العالم اليوم هي في الأنظمة الحاكمة ومعاهداتها السرّية والعلنية فيما بينها وارتباطها المصلحي الوثيق، فإن اتَّسعت رقعة الفارق بين وعي وإدراك تلك الشعوب لما تقوم به حكوماتها وسياسييها وتُقرِّبها أكثر فأكثر لإنسانيتها وبين إصرار تلك الأنظمة على غيِّها وعجرفتها وطغيانها، فمن الصعب حينئذٍ سدّ فجوة هذا الفارق بالأساليب المتعارفة، وقد استهلك الطغاة كلّ وسائلهم في إضلال العالم، فلم تبقَ أمام الجميع إلَّا الحقيقة التي لا يملكها أئمَّة الجور والانحراف، بل وقفوا هم بالضدِّ منها تماماً، وأصبح من المستحيل العودة من جديد، فأضاعوا جميع فرصهم أمام شعوبهم وأتباعهم، حيث أخذوا من الوقت بما فيه الكفاية.
فإن حدث وطُرِحَ نظام جديد بديل لكلِّ تلك الأنظمة خصوصاً إذا سلَّط الضوء على أهمِّ مساوئه وفضحها للعالم ويأتي منسجماً مع تطلّعهم الإنساني، فمن الحتمي أنَّه سيسارع أغلب أبناء بني البشر ولو يكون بشكل تدريجي في بادئ الأمر إلى نصرته.
الخلاصة:
هناك طبقات واسعة من شعوب العالم لديها حبّ للعدل والمساواة، وتتطلَّع وتسعى وتأمل تطبيقهما في أرجاء المعمورة بعد يأسها من جميع الأنظمة والحكومات التي كانت تغشّها بشعارات ليس لها في الواقع أيّ قيمة حقيقية، وأنَّ هذه الطبقات بعد هذا اليأس تستشعر أنَّ يوم تحقيق العدل قريب.
وكلُّ من كان ناصراً ومؤيِّداً للباطل والظلم سواءً على المستوى الشخصي أو الاجتماعي الفعلي أو بما يضمره. فبمقدار تأييده للباطل وبعده عن الحقِّ، فهو يأمل بُعد يوم سيادة العدل وزوال الظلم، ويسعى لعرقلة وجوده بشتّى السبل والمستويات، ويتمنّى ومن شدَّة تمسّكه بباطله أن يرى ذلك اليوم بعيداً سواءً كان مسلماً أم شيعياً أم غيره.
الصنف الثالث: عامَّة المسلمين:
ينطبق الكلام حول الصنف السابق على كثير من أبناء عامَّة المسلمين، فكثير منهم يعيش حالة حقيقية من الغربة عن دينه، فأصبحوا علمانيين بالتدريج ولم يبقَ من الدين لديهم إلَّا ما ينسجم مع فطرتهم من أُسس عامَّة جدَّاً، إمَّا على مستوى العقيدة التفصيلية أو التشريع، فقد وجد خصوصاً أصحاب الوعي والقلوب الزاكية منهم أنَّ هناك تناقضات صارخة بين ثوابت الدين وما جاء في كتاب الله تعالى، وبين تفسيرات علماء وأئمَّة الفِرَق الإسلاميَّة لنصوص الكتاب، وما ورد عن طريقهم عن النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم من أحاديث تتناقض تماماً مع ثوابت الكتاب المبين. وما أثَّر اكثر في تشويه الدين لدى هؤلاء هو الرفع من شأن بعض من عاصروا النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم إلى درجة التقديس، وخُلِطَ تاريخهم بمضامين الدين حتَّى أصبح تدريجاً جزءاً منه، وقد مُلأ هذا التاريخ بالظلم والجور والقتل وسلب أموال وحرمات المسلمين إلى أبعد حدٍّ ممكن، وتولَّد من هذا التناقض الصارخ شكٌّ وريبة.
وأصبح لا يربطهم بالدين إلَّا أساسيات أُصول الدين من توحيد ونبوَّة ومعاد وبعض الضروريات من العبادات. فانقسم هؤلاء إلى قسمين:
الأوَّل: منهم من استلهم تجربة التجديد المسيحية، حيث إنَّهم عاشوا نفس تجربتهم، من سلوك الكنيسة وتفسيرها للنصوص الدينية المسيحية. فاتَّبعوا منهج التجديد وتعدّد القراءات في فهم النصوص الدينية.
الثاني: ومنهم من أضمر هذا التناقض خوفاً من البوح به خشية التسقيط والتكفير، وهم على درجات متفاوتة، وأغلب المسلمين من أبناء المذاهب كذلك.
ومن الثابت لدى هؤلاء أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلم قد بشَّر بظهور شخص يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، إلَّا أنَّهم يعتقدون بولادة ذلك القائد في مستقبل الأيّام.
فبالإضافة إلى ما يمرُّ به الصنف السابق من اليأس بحلول جميع الفلسفات والمدارس السابقة لمشاكل البشرية، كذلك يعيش أبناء الإسلام من العامَّة محنة أُخرى، وهي تناقض كثير من ثوابت الدين مع تفسيرات وسلوك قادة الإسلام ممَّا ولَّد لديهم ريبةً وشكَّاً في الصورة العامَّة للدين. فحين يتحقَّق وعد وبشرى النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلم بظهور مصلح ومنقذ لهم بطرح تفاسير وسيرة بسلوك ينبع من صميم وثوابت الدين الحنيف، تلك الثوابت التي طالما حلموا بالبقاء عليها وتمنّوا أن يجدوا جسراً بين تطبيقاته وثوابته، الآن وقد عرفوا الفرق بين هذا التفسير الأصيل وبين ما كانوا يعرفونه من أُسس عاشوا على أمل معرفة سبيلٍ للوصول إلى ذلك اليوم السعيد بتحقيق بشارة المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم.
نتيجة الصنف الثالث:
إنَّ عامَّة المسلمين يؤمنون بثوابت وعموميات الدين الحنيف تنسجم مع الفطرة الطيّبة لهم، ووجدت تفسيرات وسلوكاً لقياداتهم منافية لتلك الثوابت، وقد تمَّ خلط متعمّد بين السلوك المنحرف للحكّام وإدخاله كجزء من الدين. ولَّد هذا الخلط لهؤلاء حالة من التناقض بين تفسير العلماء وسلوك الحكّام، والمبادئ العليا للدين، وتوجد بشارة من المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم بخلاص البشرية من الظلم والانحراف، فنتج من ذلك:
من شدَّة ارتباط هؤلاء بدينهم ونقاء سريرتهم اتِّجاه ثوابته وانسجامه مع فطرتهم، وثقة منهم ببشارة نبيِّهم صلّى الله عليه وآله وسلم، فإنَّهم يأملون قرب ذلك اليوم وزوال التناقض الذي عاشوا تحت جحيمه لقرون متمادية.
الصنف الرابع: عامَّة الشيعة وهو أهمّ الأصناف:
كلُّ إنسان بطبيعته له علائق دنيوية من عائلة ومسكن وأموال واسم وموقع اجتماعي، وربَّما تتشعَّب هذه العلائق إلى مئات الأصناف، بالإضافة إلى وجودنا وحياتنا في هذه الدنيا، فلو تقاطعت نصرة الإمام عليه السلام مع أحد هذه العلائق أو قسم منها أو أغلبها، فما هو مدى ثبات موقفنا تجاه الإمام عليه السلام؟ هل سوف تتراجع؟ أو هل ستختفي تماماً؟ وإن تعرَّض كلُّ ما ذُكِرَ إلى التهديد، فهل سنزداد صلابةً في موقفنا حبَّاً وطاعةً وولاءً لإمامنا عليه السلام؟ هذا هو السؤال الحقيقي الذي يجب أن نصدق مع أنفسنا بالإجابة عليه. وهل هناك دروس يمكن أن يستلهم الإنسان منها ليُقوّي علاقته بإمامه؟
لا يكاد يخلو إنسان من ابتلاء في نفسه أو أهله أو ماله، فلو صحَّحنا علاقتنا بالله سبحانه وقوَّمنا طريقة تعاملنا وردود أفعالنا تجاه تلك الابتلاءات نحو إرادته من خلال تلمّس وجه الحكمة من هذا البلاء أو ذاك، لأنتجت هذه السلسلة من المصاعب - والتي لم يتعرَّض لها الإنسان إلَّا لوجه حكمة منه سبحانه -، نتيجة طيّبة كالصبر والتسليم أو حتَّى الرضا بقضاء الله وقدره.
ومن هنا أكَّدت كثير من الروايات على هذا المعنى، منها:
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام الْبَلَاءُ ومَا يَخُصُّ اللهُ (عَزَّ وجَلَّ) بِهِ المُؤْمِنَ. فَقَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلم: مَنْ أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: النَّبِيُّونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، ويُبْتَلَى المُؤْمِنُ بَعْدُ عَلَى قَدْرِ إِيمَانِهِ وحُسْنِ أَعْمَالِهِ، مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَمَنْ سَخُفَ إِيمَانُهُ وَضَعُفَ عَمَلُهُ قَلَّ بَلَاؤُهُ»(١٩).
ومن أهمّ مراتب الإيمان وعلاماته هو نصرة وليّ الله الأعظم عليه السلام. والذي من المحتمل أن يتعرَّض المؤمنون لأشدّ حالات الابتلاء ساعة ظهوره عليه السلام، ومن هنا يأتي دور التمحيص الشديد وثمرة الثبات في الابتلاءات التي سبقت الظهور المقدَّس. ليلتقي حينئذٍ البلاء في أشدّ حالاته والإيمان في أقوى صوره، ليتجسَّد أمام القائد المعظَّم في أُناس قلوبهم كزبر الحديد ليوث في النهار ورهبان في الليل.
ويمكن تقسيم المنتظرين من هذا الصنف إلى أربعة أقسام:
القسم الأوَّل: الفاشلون في التمحيص والابتلاء الإلهي:
من أهمّ أوجه الابتلاءات التي يمرُّ بها المنتظر هو مدى استعداد تنازله عن مواقعه الاجتماعي أو السياسي أو الديني أو الاقتصادي إذا ما اقتضت مصلحة الدولة العادلة ذلك وقت الظهور المقدَّس، وأنَّ لقبول فكرة التنازل من عدمها تأثيراً على استعداده لنصرة المهدي عليه السلام ورؤيته لقرب أو بعد ظهوره المبارك.
فيكون التعلّق بالدنيا وتلك المناصب مانعاً متقدِّماً يعمل من خلال لا وعينا برفض فكرة ورغبة الظهور القريب، وتتولَّد لدى هذا المتعلّق المسكين ازدواجية في رغبته بفكرة الظهور. ويكون الظهور لديه حقيقة أمراً مشروطاً في أعماق وجدانه، وذلك بمعنى: إن كان الظهور يُجرِّدنا من مميِّزاتنا فلا نرغب بهذا الظهور حالياً. فهذا الشرط وإن لم يظهر على صفحة ذهنه في بادئ الأمر بهذا الوضوح إلَّا أنَّه يتجلّى بقلَّة تفاعله ونشاطه بفكرة الظهور إلى أن ينتهي بالفتور الكامل عن الاستعداد فضلاً عن الشوق للقاء الإمام عليه السلام، ثمّ يتحوَّل عكسياً في التدريج إلى الرغبة بعدم الظهور.
وما نراه ممَّن يكونون في مواقع مميّزة فعلاً، من بُعد عن الانسجام مع عقيدة المهدي عليه السلام هو نابع من هذا الشعور، والمكاسب الآنية والمواقع التي اعتلوها سيطرت شيئاً فشيئاً على تفكيرهم وهمومهم وآمالهم، واستأنسوا بها، بحيث يحاولون أن يُبعِدوا (تدريجياً) من عقولهم وطموحهم كلَّ ما يُهدِّد هذه المكاسب التي ارتضوها حتَّى وإن كان ذلك قدوم إمامهم عليه السلام الذي طالما توسَّلوا لله تعالى بقرب ظهوره.
وهذا هو أحد مصاديق قول المعصوم عليه السلام: «اللّهمّ اكشف هذه الغمَّة عن هذه الأُمَّة بحضوره، وعجِّل لنا ظهوره، إنَّهم يرونه بعيداً ونراه قريباً، برحمتك يا أرحم الراحمين»(٢٠)، تأويلاً لقول الله تعالى: (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَراهُ قَرِيباً) (المعارج: ٥ - ٧).
إنَّ عقيدة المهدي تحوَّلت عند هؤلاء إلى مستويين:
الأوَّل: هو ما يجب أن يحافظوا على صورهم ومكانتهم أمام من يعتقدون به، ممَّن لم يقعوا في فخّ أسر حبِّ الدنيا أو ممَّن لا يملكون شيئاً فعلاً منها، وربَّما الأمر أعقد من ذلك وهو أنَّهم يبقون على هذه المفاهيم إلى مرحلة ما، إذا لم ينزاحوا تماماً عن هذه العقيدة ولم تكبَّلهم هذه المناصب والشعور بالتميّز تماماً، ليُقنِعوا أنفسهم بأنَّهم لا زالوا من أتباع هذه العقيدة إلى أن يفرغوا تماماً من محتواها الحقيقي، وذلك بالأسر التامّ، وحينها فهم على استعداد تامّ للتخلّي عن هذه المفاهيم، فيخرجوا على أصحابهم في العقيدة سابقاً من خلال أفكار مفبركة وبرّاقة كالحداثة والعقلانية، يحاولون أن يُؤطِّروا بها انحرافهم وتخلّيهم عن عقيدتهم السابقة، ليُخفِّفوا عن صدمة الانتقال المفاجئ بالنسبة إلى من لا يعرف حقيقة تحوّلهم، وليحافظوا على صورتهم أمام الفئة الاجتماعية التي ينتمون إليها. وهنا للعقيدة مستوى ووجود عقلي ومفاهيمي.
والثاني: وهو الحقيقي وما يلقى الله سبحانه به وعلى أساسه يتمُّ تحديد موقفه من نصرة وخذلان الإمام المهدي عليه السلام في ظهوره المبارك، وهو ما أوصله إلى رغبته وحبّه بعدم تعجيل ذلك الظهور لشعوره، واعتباره أنَّه يُهدِّد مكانته التي استبعدته تماماً عن قبول فكرة الفرج القريب، لأنَّ ذلك حقيقة بالنسبة له يساوي الضياع القريب.
فإنَّ أمثال هؤلاء لهم عقيدتان في المهدي واحدة مجرَّد مفاهيم عقلية يُزيِّن بها شخصيته أمام المجتمع، والثانية وهي ما يتعلَّق بمكانته ومكاسبه الدنيوية، وهنا يستبعد ولا يتمنّى تماماً فكرة الظهور التي ربَّما ألَّف الكتب والمحاضرات في التعريف بها والتحضّر والاستعداد لاستقبالها.
كثير من روايات المعصومين عليهم السلام تشير إلى وقوع تمايز وتبدّل في مسألة الانتماء والنصرة للإمام المهدي عليه السلام. روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنَّه قال: «... حتَّى يأتي - المهدي -، والسفياني يومئذٍ بوادي الرملة ، حتَّى إذا التقوا ... يخرج أُناس كانوا مع السفياني من شيعة آل محمّد عليهم السلام، ويخرج ناس كانوا مع آل محمّد إلى السفياني، فهم من شيعته حتَّى يلحقوا بهم، ويخرج كلّ ناس إلى رايتهم، وهو يوم الأبدال»(٢١).
وذلك لأنَّ فترة الظهور وما يرافقها سوف تنتج أحداثاً تدفع فئة من الناس ممَّن كانوا يُعرَفون ويُوصَفون بالانحراف بتهيئة ظروف صلاحهم، ممَّا تجعلهم يتخطّون عدَّة مراحل من الاصلاح في فترة وجيزة، وأبرز مثال لهؤلاء هو الحرّ بن يزيد الرياحي، فتحوَّل بعد تهيئة ظروف صلاحه من قائد ضدّ الحسين عليه السلام إلى شهيد في ركب الحسين عليه السلام.
والعكس صحيح إذ ربَّما ينحرف عن نصرة المهدي عليه السلام فئات ممَّن كانت تعرف بقربها من هذه العقيدة، وذلك ببعد سلوكها وممارساتها عن جوهر حكم الإمام عليه السلام، وهذا ما لا يناسب الكثيرين ممَّن اعتادوا على المجاملات والتسويف والاحتيال والتهاون، وإن استطاعوا أن يحافظوا إلى تلك الفترة على سمعتهم العقائدية ظاهراً والتي ينتمون بها إلى عقيدة المهدي عليه السلام، فهؤلاء يعلمون وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الإمام سوف يستأصلهم ويستبعدهم تماماً عن مهامِّ بناء دولته المباركة.
القسم الثاني: أتباع أئمَّة الضلال:
وممَّن يُحسَبون على أصناف المنتظرين ولو ظاهراً: المستغرقون في شخصيات قادتهم المنحرفين، بحيث أخذوا يتعصَّبون لتلك الشخصيات لدرجة أنَّهم يُفضِّلونها واقعاً على الإمام نفسه، فهم يُفكِّرون بنفس طريقة قائدهم ويعيشون أهدافه وتطلّعاته، وقد تربّوا على ضوء شخصيته وأخلاقه، وكذلك على مستوى ارتباطه وعقيدته بالإمام المهدي عليه السلام. فكثير ممَّن تسلَّقوا على بعض الفئات الدينية وأسَّسوا فرقاً خاصَّةً بهم في داخل الجسد الشيعي، وللأسف الشديد وبعد انسلاخ عقيدة المهدي لديهم يضمرون ويتمنّون مكانته الدينية لما لها من قداسة لدى أتباع أهل البيت عليهم السلام، فتارةً يُصرِّحون بذلك وأُخرى يبثّون إشارات لا تخفى على اللبيب المتتبّع.
فهؤلاء لم يألوا جهداً في ترويض واستدراج أتباعهم بشتّى السبل الشيطانية لإخلاص الولاء لهم على حساب الولاء للمعصوم عليه السلام، فهؤلاء الأتباع ليس لهم موعد للظهور ينتظرونه، ولم يبقَ منه إلَّا تصوّرات خاوية على عروش ولائهم الجديد.
القسم الثالث: المؤمنون الذين اشتبهت عليهم أولويات الولاء:
من المؤمنين من لديه نسبة جيّدة من الإخلاص، ولكنَّه مستغرق جدَّاً في ارتباطه بأحد الرموز الدينية سواء أكان تحت عنوان مرجعية أو قائد أو أيّ عنوان ديني آخر، واستغرق في ارتباطه هذا على حساب علاقته بإمام زمانه، نعم الارتباط بحدِّ ذاته مطلوب، بل واجب حسب ما ثبت في أبواب التقليد، فبالإضافة للاتِّباع الفقهي، يُوفِّر المرجع شعوراً نفسياً بوجود علاقة حسّية، لمن يتأثَّرون بفقدها، تربطهم بإمامهم عليه السلام، وأيّ فراغ من هذا النوع ربَّما يستغلّه ضعاف النفوس، من أئمَّة الضلال، ولذلك نرى كلّ أصحاب رايات الضلال التي برزت على الساحة الشيعية وأحد أهمّ وسائلها هو محاولة قطع علاقة الناس بعلمائها ومراجعها، لتخلو لهم قلوبهم.
ولكن يجب أن تكون حدود الارتباط والعلاقة واضحة، فما للإمام للإمام من ولاء واعتقاد وتقديس، ويفترض أن لا ينافسه أحد عليه، مهما كان حجمه، وللفقيه الحبّ والاحترام والطاعة. في حدود ما ثبت في الشريعة.
وإنَّ هذه الطبقة من المؤمنين، ولبساطتهم تختلط عليهم تلك الحدود فيجعلون ما للإمام لمرجعهم، لجهلهم بضرورة الوقوف عند تلك الحدود فيذوبون شيئاً فشيئاً في حبِّ مراجعهم إلى أن يتحوَّل هذا الحبّ إلى تقديس، وربَّما إلى اعتقادات أُخرى، كما لدى بعض الفِرَق الإماميَّة كالشيخية.
وبسبب نقطة التحوّل تلك، في عدم ترتيب أولويات ولائهم، والتوجّه بكلِّ كيانه إلى قائده القريب على حساب الإمام الفعلي عليه السلام، ينسلخ من قلبه مبدأ الانتظار، وذلك بسبب أنَّ هذا القائد الديني مهما بلغ به العمر والهدف والتخطيط، فهو محدود قياساً بقضيَّة الإمام عليه السلام، فينحصر طموح وأهداف ورؤى هذا المؤمن بحدود قائده الذي ذاب فيه، وغالباً أصحاب هذا الصنف من المؤمنين لم يشعروا باستدراجهم إلى هذه النقطة، لأنَّه أمر يحصل بالتدريج. بسبب جهلهم، وقلَّة معرفتهم بقدر إمامهم، وهشاشة إيمانهم به عليه السلام.
فتتلاشى لدى هؤلاء ملامح أمل قرب الظهور شيئاً فشيئاً، إلى أن يرونه بعيداً أو لا يرونه إلَّا من خلال تصوّرات ليس لها علاقة بالإيمان والارتباط الحقيقي، بإمامهم، القائم على الانتظار صباحاً ومساءً، حسب وصف الأئمَّة الأطهار عليهم السلام.
القسم الرابع:
وهناك قسم من المؤمنين قد حافظوا في ذواتهم على مساحة خاصَّة للإمام عليه السلام بقيت مهيمنة ومسيطرة على جميع علائقهم الدينية الأُخرى، ولم يستغرقوا في علاقتهم بأشخاص قياداتهم الدينية على حساب علاقتهم بإمامهم وقائدهم الأعلى أرواحنا فداه، فهناك فوائد عظيمة في الحفاظ على هذا الارتباط:
منها: التأثّر بخلق وصفات من نعتبره القدوة الأعلى لنا، فالإمام لا يقاس به أحد مهما بلغ من الشرف والتقوى والعلم.
ومنها: أنَّ الإمام عليه السلام يُمثِّل التجسيد الحقيقي للإسلام وشموليته ومستقبله، والارتباط القلبي الفعلي به عليه السلام، يُوسِّع من هذه الآفاق لدى المؤمن.
ومنها: أنَّ من آثار هذا الارتباط القلبي المباشر بالإمام عليه السلام هو التوكّل والثقة بكلام الله تعالى ووعد الأئمَّة الأطهار عليهم السلام في توقّع وتحسّس الفرج صباحاً ومساءً، فإنَّ المقادير بيد الله تعالى ومرتبطة بإرادته سبحانه، إذ لعلَّه يحدث بعض التغيّرات على بعض القوانين الكونية، فتحدث كما مرَّ علينا تغييراً شاملاً في نفوس وعقول وقناعات البشرية ونظرتها للوجود، فتسقط بأعينهم كلّ الفلسفات المادّية للكون والحياة، فيكون هو المسرِّع الذي ذكرناه آنفاً، لتقبّل فكرة الدين أو المنهج الجديد للحياة، فيقترَّب بذلك وعد الله تعالى في ظهور وليّه الأعظم عليه السلام.
وفي هذه النقطة يلتقي هذا الصنف من المؤمنين مع النوع الرابع من أصحاب رؤيا فلسفة التاريخ، إلَّا أنَّ أُولئك اعتمدوا على قراءة التاريخ ومجريات أحداثه، وكان ينقصهم الرؤية القلبية لتحسّس قرب الفرج، وهؤلاء انطلقوا من نقاء سريرتهم وصدق ارتباطهم بإمامهم عليه السلام، وربَّما من يجمع بين هذين الرؤيتين، تكون لديه الصورة أوضح، في توقّع الظهور وليس تحديده الحتمي.
وتبقى المقادير مرتبطة بالله سبحانه هو وحده من يعلم ويُقدِّر يوم وساعة اطلالة أملنا وقائدنا عليه السلام.
ومنها: ولعلَّ هذه الفائدة على الصعيد العملي هي الأكثر فاعلية للمؤمن المنتظر، وهي أنَّ الشعور بالارتباط القلبي الدائم بالإمام عليه السلام يُعطي زخماً كبيراً من الطاقة للعمل الرسالي لتأدية الإنسان تكليفه، وتزوّده بقدر كبير جدَّاً من الحيوية، لخدمة دينه وقضيَّته، فيبحث عن القيادة الدينية المناسبة لتطلّعاته، وفق الأُطر العامَّة للمذهب وما ثبت في فقه مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فيترجم تلك التطلّعات والتعبير عنها ضمن منهج المرجعية التي ثبت لديه أنَّها تتناسب مع أهدافه، وذلك ببركة حفاظه على تلك المساحة الخاصَّة لإمامه ولم تختلط عليه أولويات الولاء والارتباط.
وهذا الصنف من المؤمنين هم الأكثر فاعلية في العمل الرسالي، والأنشط حركة في خدمة الأُمَّة، والأصوب والأدقّ تشخيصاً للخلل الذي يواجه مسيرة الرسالة، وأكثر نفعاً لقادتهم ومراجعهم، وذلك لشمولية رؤيتهم وللفوائد التي مرَّ ذكرها.
المقوّمات والعوامل الذاتية في مدرسة أهل البيت عليهم السلام بإبقاء أو ولادة الأمل بعد اليأس لتطبيق العدل الكامل:
بقي أمر مهمّ لا بدَّ من التعرّض له وهو: ما هي العوامل والمقوّمات التي تمتلكها مدرسة أهل البيت عليهم السلام والتي من خلالها يمكن أن يُرسِل رسائل اطمئنان ويعطي انطباعاً إيجابياً لشعوب العالم وللمسلمين الذين لم يندكّوا كثيراً بأفكار قادتهم الدينيين، بوجود أملٍ يمكن من خلاله أن تستعيد الإنسانية إنسانيتها، ويعود الله (جلَّ وعلا) محطَّاً لاهتمام المتعطّشين لمعرفته، بعد يأسهم من كلِّ الحلول السابقة الدينية منها والوضعية، وببركة هذه العوامل يمكن أن يتجدَّد أمل سيادة العدل ليكون من أولويات رؤاهم للمستقبل السعيد؟
ومن هنا يمكن أن ندرك أهمّية وحجم تكليفنا كأُمَّة تنتمي إلى هذا الخطّ الإلهي الأصيل، وهو أعمّ مصداق لتكليفنا كأتباع لأهل البيت عليهم السلام والذي أثبته في أعناقنا المعصوم عليه السلام بقوله: «كونوا لنا دعاة بغير ألسنتكم».
فكلُّ ما يصدر عنّا كشيعة له تأثيره على حركة المعصوم عليه السلام سواءً سلباً أو إيجاباً.
وللإجابة على السؤال الآنف يمكن أن يقال:
نعم هناك عوامل(٢٢) تساعد على ولادة أمل جديد بوجود فئة اجتماعية تنتمي إلى مدرسة دينية ربَّما تحمل في كنف أفكارها وسيرتها أملاً يُسرِع بتطبيق العدل المفقود في العالم والتمهيد لقبول أفكاره وطرحه، وتلك العوامل هي:
العامل الأوَّل: سيرة العلماء والحوزات العلمية:
لو تتبَّعنا سيرة علماء الطوائف الدينية سنجد أنَّها إمَّا منعزلة تماماً عن شعوبها والواقع الذي تعيشه، وهي في وادٍ وأتباعها في وادٍ آخر، ومثاله المسيحية والبوذية وبمجموعهما يُشكِّلون أغلبية أبناء بني البشر.
وإمَّا هم تحت تصرف الحكومات الجائرة وهي تتحكَّم بهم تحكّماً كاملاً، بل حتَّى تنصيب كبار العلماء يتمُّ بمرسوم جمهوري أو ملكي، ناهيك عن السيطرة الاقتصادية، ولا يتعدّى رجل الدين هناك أكثر من كونه موظَّف حكومي، وهو يسير في ركب الحاكم فإن كان الحاكم شرّيراً وأكثرهم كذلك، فيجب على العلماء شرعنة شرّهم واستدراج شعوبهم وحثّهم على مسايرة الحاكم، ومثال على ذلك علماء السعودية والخليج عموماً، والأزهر بدرجة أقلّ تقريباً. وقد أطلقوا طبقة من المشايخ من ذوي المعالم غير الواضحة يُحرِّكون بهم الجهلة ويُغرِّرون بهم بحثِّهم على جهاد الكفّار، والمعنيين بهؤلاء الكفّار هم مئات ملايين المسلمين الذين يشهدون الشهادتين، وأكبر تأثير مباشر على الدين عموماً وسمعته وعلى أتباعهم هي فوضوية تلك الفتاوى التي تصدر من جهات تدَّعي العلم وعدم ضبطها ضمن أُطُر علمية واضحة.
وبعد الوعي المتزايد لدى شعوب العالم من جهة والوازع الفطري للدين لدى الإنسان أخذت وظيفة هؤلاء العلماء تتضاءل وتصغر وتتباين في عقول وقلوب هؤلاء الأتباع. فالوازع الديني الفطري النزيه والنوراني في وادٍ وممارسات ما يُسمَّون بعلماء في وادٍ آخر.
وأمَّا علماء أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام فقد أدهشوا العالم بحكمتهم ووسطيَّتهم وإنسانيتهم ودرءهم لكثير من الفتن وحفاظهم على مقدرات أبناء الديانات والمذاهب الأُخرى، وأقرب دليل على ذلك هو موقف المرجعية العليا المتمثِّلة بالسيِّد السيستاني (دام ظلّه الوارف) في حفاظه على أبناء المذاهب الأُخرى، حتَّى اشتهر توصيفهم بـ (أنفسنا) على كثير من الألسن، ووقوفه إلى جنب أتباعه وغيرهم في قبال كلّ من أراد تحريف مصالحهم، ودعمه لأبناء المناطق التي طالتها يد الإرهاب من أبناء المذاهب والديانات الأُخرى غير خفيَّة على المتتبِّع كاليزيديين والمسيحيين وغيرهم.
وكذلك مواقف كلّ زعامات الطائفة الأساسيين من الوحدة وجمع الكلمة بين أبناء الدين الإسلامي، وخير شاهد على ذلك هو إقامة المهرجانات والتجمّعات ذات الطابع التوحيدي، من قِبَل قيادة الجمهورية الإسلاميَّة، وغير بعيد عنّا موقف الشهيد الصدر الثاني حين أمر أتباعه بإقامة صلاة الجمعة الموحَّدة.
وكذلك مواقف الشهيد الصدر الأوَّل والسيِّد موسى الصدر الذي انفتح على أبناء الديانات الأُخرى، تفهّماً ومشاركةً لهمومهم ومشاكلهم.
وكثير من المحاولات والمواقف من حوزات وعلماء أتباع أهل البيت عليهم السلام التي تصبُّ في بثِّ روح الأُخوَّة والوحدة مع باقي المذاهب الإسلاميَّة والتعاون والتسامح مع باقي أبناء الديانات الأُخرى. كيف لا وذاك صوت قائدهم وإمامهم علي بن أبي طالب عليه السلام ينادي: «الناس صنفان إمَّا أخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق»؟
فإذا كان الأتباع من العلماء بهذه الروحية العالية والحكمة البالغة يتعاملون مع باقي الطوائف، فكيف بقائدهم الكبير وإمامهم الموعود؟
العامل الثاني: السيرة الطيّبة للفصائل العسكرية الشيعية:
تباين أفكار وسلوك الفصائل المسلَّحة التي تدَّعي ارتباطها بالسلام. فالمتتبِّع لعقيدة وأفعال الوهّابية منذ نشأتها وبعد استتباب أُمورها في الحجاز حيث بدأت نشاطها الإرهابي في العراق وقتلت آلاف العراقيين في غزوات الإخوان بهجومهم على كربلاء والنجف وبادية السماوة، وما فعلته في أفغانستان وما تفعله اليوم في كثير من بلدان العالم الإسلامي تحت مسمّيات كثيرة كالإخوان في بداية انتصار الوهابية والقاعدة وطالبان والتوحيد والجهاد والنصرة وبوكو حرام وليس آخرها داعش.
وما قامت به هذه القطعان غير خافٍ على أحد من قتل الأطفال والنساء وتشريد الشعوب ومخالفتها لأبسط تعاليم الدين القويم وتكفيرهم لأُمَّة المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم بأجمعها تقريباً إلَّا من سار في ركبهم المنحرف.
ومن جهة أُخرى لو تتبَّعنا منهج وسلوك الفصائل المسلَّحة التي تتَّبع أهل البيت عليهم السلام في العقيدة لا نجد لها أيّ موقف عدائي ولا يُعمِّمون معركتهم لغير عدوّهم المعلن والمحدَّد، وهو إمَّا مغتصب لأرض أو معتدّي على نفس أو مقدَّس من مقدَّساتهم، وقد استطاعت هذه الفصائل أن تكسب احترام متابعيها من أبناء الثقافات الأُخرى، باتِّزانها وخُلُقها الرفيع وشرفها في إدارة المعارك، وصمودها من أجل تحقيق أهدافها، تلك الأهداف التي تقرّها كلّ الشرائع الإنسانية والسماوية.
العامل الثالث: سيرة الأئمَّة الأطهار عليهم السلام:
وهذا هو أهمّ العوامل وأكثرها تأثيراً، حيث ورد عن الأئمَّة عليهم السلام في هذا المعنى:
عن الهروي، قال: سمعت أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام يقول: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا»، فقلت له: وكيف يحيي أمركم؟ قال: «يتعلَّم علومنا ويُعلِّمها الناس، فإنَّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتَّبعونا»(٢٣).
إنَّ سيرة أئمَّتنا عليهم السلام وخصوصاً المشهورون منهم كأمير المؤمنين والإمام الحسين عليهما السلام، قد ألهمت أحرار العالم من مفكّرين وثوّار وأُدباء المعنى الحقيقي للحرّية وعشق العدل وأسمى معاني الإنسانية حتى دوَّن بعضهم هذه الاعترافات، إمَّا في قصائدهم أو غيرها، ومن أمثلة تلك الشهادات ما سطره الأديب المسيحي المعروف (بولس سلامة):
لا تَقُل شيعةٌ هواةُ عليٍّ * * * إنَّ كلَّ منصفٍ شيعيا
هو فخرُ التاريخ لا فخرَ شعبٍ * * * يصطفيه ويدَّعيه وليَّا
ذِكره إن عرى وجومَ الليالي * * * شقّ في فلقة الصباح نجيَّا
يا عليَّ العصور هذا بياني * * * صغتُ فيه وحيَ الإمام جليَّا
يا أميرَ البيان هذا وفائي * * * أحمدُ اللهَ أن خُلِقْتُ وفيَّا
جلجل الحقُّ في المسيحي حتَّى * * * صار من فرط حُبِّه علويَّا
أنا من يعشق البطولة والإلهام * * * والعدل والخلق الرضيّا
فإذا لم يكن عليٌّ نبيَّاً * * * فلقد كان خُلْقه نبويَّا
أنت ربٌّ للعالمين إلهي * * * فأنلهم حنانك الأبويا
وأنلني ثواب ما سطرت كفّي * * * فهاج الدموع في مقلتيا
سفر خير الأنام من بعد طه * * * ما رأى الكون مثله آدميا
يا سماء اشهدي ويا أرض قرّي * * * واخشعي إنَّني ذكرت عليَّا
ولعلَّ خلاصة ما ينفعنا في المقام هو قوله:
أنا من يعشق البطولة والإلهام * * * والعدل والخلق الرضيّا
النتيجة:
مع اتِّحاد هذه العوامل وانتشارها ولَّدت وستولد انطباعاً إيجابياً لدى طبقات مهمَّة من العالم.
وهذا الانطباع الإيجابي سيترك بطبيعة الحال احتراماً راسخاً للجهة التي نبعت منها تلك العوامل، والتي يكون الإمام المهدي عليه السلام قائدها الفعلي الأعلى، وهو من يطرح تلك الأفكار الجديدة. وإنَّ هذه الجهة الوحيدة في التاريخ لم تُعْطَ فرصة القيادة العامَّة للبشرية، فقد جاء عن الأئمَّة عليهم السلام، عن أبي جعفر عليه السلام أنَّه قال:
«دولتنا آخر الدول، ولن يبقَ أهل بيت لهم دولة إلَّا ملكوا قبلنا لئلَّا يقولوا إذا رأوا سيرتنا: إذا ملكنا سرنا مثل سيرة هؤلاء، وهو قول الله (عزَّ وجلَّ): (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: ١٢٨]»(٢٤).
ومن نتائج هذا الانطباع الطيّب أيضاً، عن خطِّ مدرسة أهل البيت عليهم السلام، هو بقاء أو ولادة الأمل في نفوس وعقول طالبي العدل في العالم بوجود احتمال جديد بقيادة الإنسانية نحو سعادتها.
الهوامش:
(١) الاحتجاج: ٣١٥ - ٣١٧.
(٢) هذا الجواب مقتبس من كتاب رايات الضلال للكاتب، مع بعض التعديل الذي يناسب المقام.
(٣) الفصول المهمَّة في أُصول الأئمَّة للشيخ محمّد بن الحسن الحرّ العاملي: ٢٤٥/ تحقيق: محمّد بن محمّد الحسين القائيني/ ط ١/ ١٤١٨هـ ق، (١٣٧٦هـ ش)/ الناشر: مؤسّسة معارف إسلامي إمام رضا عليه السلام.
(٤) بصائر الدرجات ٤: ٢٧٥/ باب ١٣/ ح ٦.
(٥) مقدّمة للسيِّد الشهيد محمّد باقر الصدر، لكتاب موسوعة الإمام المهدي عليه السلام، للسيِّد الشهيد محمّد الصدر.
(٦) كمال الدين: ٢٥٢/ باب ٢٣ نصّ الله عليه/ ح ١.
(٧) ينابيع المودَّة: ٣٢٧.
(٨) ينابيع المودَّة: ٤٣٠.
(٩) أُنظر: مسند أحمد ٣: ٢٨ و٧٠؛ المستدرك على الصحيحين ٤: ٦٠١/ ح ٨٦٧٤؛ عقد الدرر: ١٦؛ فرائد السمطين ٢: ٣٢٢/ ح ٥٧٣. وراجع: كشف الغمَّة ٢: ٤٦٨؛ العَرف الوردي: ٤٥/ ح ٤٨؛ نامه دانشواران ٧: ٩.
(١٠) أُنظر: مسند أحمد ٣: ١٧؛ الإحسان بتريب صحيح ابن حبّان ٨: ٢٩١/ ح ٦٧٨٧؛ مسند أبي يعلى ٢: ٣٦٧/ ح ١١٢٨، و٢٧٤/ ح ٩٨٧؛ المستدرك على الصحيحين ٤: ٦٠٠/ ح ٨٦٦٩؛ تاريخ أصبهان لأبي نعيم ١: ١١٥؛ عقد الدرر: ٢٣٦. وراجع: كشف الغمَّة ٢: ٤٦٨؛ العَرف الوردي: ٤٥/ ح ٤٩؛ نامه دانشواران ٧: ٩.
(١١) مقاتل الطالبيّين: ١٣٨؛ تاريخ دمشق ١٩: ٤٧٥، وفيه: «أبشري! المهدي منكِ»؛ ذخائر العقبى: ٢٣٦. وانظر: سنن ابن ماجة ٢: ١٣٦٨/ ح ٤٠٨٦؛ سنن أبي داود ٣: ١٠٤/ ح ٤٢٨٤؛ التاريخ الكبير للبخاري ٣: ٣٤٦/ رقم ١١٧١؛ الفتن لنعيم بن حمّاد: ٢٣١؛ المعجم الكبير ٢٣: ٢٦٧/ ح ٥٦٦؛ تاريخ الرقَّة: ٩٥/ ح ١٤٣ و١٤٤؛ المستدرك على الصحيحين ٤: ٦٠١/ ح ٨٦٧١ و٨٦٧٢؛ الملاحم لابن المنادي: ١٧٩/ ح ١٢٠ و١٢١ عن أُمِّ سَلَمة؛ السنن الواردة في الفتن للداني: ٢٥٨/ ح ٥٦٦، و٢٦١/ ح ٥٧٦، و٢٦٣/ ح ٥٨٢؛ عقد الدرر: ٢١؛ ذخائر العقبى: ٢٣٦. وراجع: كشف الغمَّة ٢: ٤٦٨؛ العَرف الوردي: ٥٦/ ح ٨٤؛ نامه دانشواران ٧: ٩.
(١٢) المنار المنيف: ١٤٨/ ح ٣٣٩ عن الطبراني؛ التذكرة للقرطبي: ٦١٥؛ عقد الدرر: ٢٤ عن صفة المهدي لأبي نعيم؛ ذخائر العقبى: ٢٣٦؛ فرائد السمطين ٢: ٣٢٥ و٣٢٦/ ح ٥٧٥؛ وانظر: سنن أبي داود ٤: ١٠٤/ ح ٤٢٨٢؛ المعجم الكبير ١٠: ١٣٧/ ح ١٠٢٣٠؛ الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان ٧: ٥٧٦/ ح ٥٩٢٣ عن ابن مسعود. وراجع: كشف الغمَّة ٢: ٤٦٩؛ نامه دانشواران ٧: ١١.
(١٣) الكامل في ضعفاء الرجال ٥: ٢٩٥/ رقم ١٤٣٥، وفيه: «من قرية باليمن يقال لها: كرعة»؛ البيان في أخبار صاحب الزمان: ٥١١ عن أبي الشيخ في عواليه، وأبي نعيم في مناقب المهدي؛ الحاوي للفتاوي ٢: ٦٦ عن أبي بكر المقري في معجمه؛ معجم البلدان ٤: ٥١٣/ رقم ١٠٢٠٩، وفيه كما في الكامل لابن عدي.
(١٤) كنز العمّال ١٤: ٢٦٤/ ح ٦٦ عن الروياني في مسنده؛ عقد الدرر: ١٨ عن أبي نعيم في صفة المهدي؛ ذخائر العقبى: ٢٣٦؛ ميزان الاعتدال ٦: ٣٧/ رقم ٧١٢٠؛ لسان الميزان ٥: ٢٤. وراجع: كشف الغمَّة ٢: ٤٦٩؛ العَرف الوردي: ٥٥/ ح ٨٠؛ نامه دانشواران ٧: ١٢.
(١٥) أُنظر: جواهر العقدين: ٣٠٧ عن الروياني في مسنده؛ عقد الدرر: ٣٤ عن الطبراني في معجمه؛ فردوس الأخبار ٢: ٣٥٩/ ح ٦٩٤٠؛ البيان في أخبار صاحب الزمان: ٥٠١. وراجع: كشف الغمَّة ٢: ٤٦٩؛ العَرف الوردي: ٥٥/ ح ٨١؛ نامه دانشواران ٧: ١٢.
(١٦) موسوعة الإمام مهدي ٣: ٨٩/ الجهة الرابعة: نظام الدولة المهدوية: ٨٧.
(١٧) الغيبة للطوسي: ٤٧٢ و٤٧٣.
(١٨) بتاريخ (٩/ ٩/ ٢٠١٥م).
(١٩) الكافي ٢: ٢٥٢.
(٢٠) دعاء العهد المبارك.
(٢١) بحار الأنوار (ج ٥٢).
(٢٢) لا ندَّعي استيعاب هذه العوامل بتفصيلاتها إنَّما هي معاني مجملة لعلَّ فيها بعض الفائدة للإخوة القرّاء أعزَّهم الله.
(٢٣) بحار الأنوار ٢: ٣٠.
(٢٤) الغيبة للطوسي: ٤٧٢ و٤٧٣.